الخميس، ١٥ مايو ٢٠٠٨

التجديد ضرورة - 5

إن الناظر إلى تاريخ أمتنا الإسلامية سيجد انه مليء بالمبدعين والمجددين وسيجد أن هؤلاء كثر لدرجة أنه لا يمكن أن نحصيهم في مقال أو كتاب واحد . ولا يمكن ربطهم بعصر معين أو جيل معين بل إن جميع العصور التي مرت بها الأمه كان بها مبدعين ومجددين . وفي كثير من الأحيان كنت تجد في العصر الواحد مبدعين ومجددين في جميع المجالات فهذا يبدع ويجدد في الفقه وهذا في الحديث وهذا في الكيمياء وهذا في الأدب وهكذا في جميع العلوم التي تعود على البشرية بالنفع ، ولذلك فإننا لا نبالغ إذا قلنا أن فضل المسلمين على العالم لا يسبقه فضل وأن سبقهم في العلوم جميعا جعل من الأرض مكانا صالحا للحياه فالباحث في العلوم الإنسانية عن فن الذوق والأدب سيجده نابعا من المسلمين ، والباحث عن بدايات العلوم مع العلم أن الصعب دائما هي البدايات سيجد أن بدايات كثير من العلوم كانت من عند المسلمين . ولذلك عندما فكرت في اختيار أحد المجددين لأجعله مثالا لفكر التجديد الذي أكتب فيه الآن كان الأمر غاية في الصعوبة وكأنك تبحث عن وردة في وسط حديقة غناء فالحديقة مليئة بالورود الجميلة الشكل والرائحة ولقد تعجبت كل العجب من أمرين : الأول أننا كمسلمين لا نعرف عن كثير من هؤلاء المبدعين المجددين أي شيء وقد تم تغييبنا عنهم وتغيبهم عنا قصدا وعمدا حتى لا نرتبط بهم ولا نعرف أننا أصحاب حضارة وأصحاب تاريخ ممتد في رقي البشرية . والأمر الثاني أن الغرب يصفنا دائما بأننا ليس لنا عقول وأننا أمة من الهمج وأن الحضارة خلقت لهم فقط وأننا ليس لنا إلا الخيم والصحراء وأن التخلف تابع أساسي في شخصيتنا . وللأسف الشديد هناك من بني جلدتنا ممن يروجون لهذا .
ولكن كان لابد من اختيار شخصية مجددة لكي نرى كيف كان يفكر المسلم وكيف يمكن أن يفكر المسلم وهل العوائق التي تحدثنا عنها في المقال الماضي سوف توقفنا . سوف نعيش مع شخصية جددت الدين في زمانها . وسأترك الكلام للمحدثين والعلماء عن هذه الشخصية التي أسأل الله أن نحتذي بها واسأل الله أن يجمعنا به في الجنة .
هذا المجدد هو عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين :
- أجمع العلماء والمؤرخين والمهتمين بالحركة التجديدية على أن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز هو المجدد الأول في الإسلام فقد جاء في كتاب سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص 74( قال الإمام أحمد : يروى في الحديث إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة ديناها فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز). ويقوا بن حجر العسقلاني في فتح الباري (إن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد ، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز ، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه لها ).
- جاء عمر بن عبد العزيز إلى الحكم وكانت أنوار النبوة لازالت ذات أثر بالغ في الحياه العامة للناس وكان الدين مازال صاحب السلطان الأول في قلوب الناس ولكن كانت الخلافة الإسلامية فيها تغير وانقلاب فقد كان هناك انحراف شديد في نظام الحكم وهذا الانحراف نتج عنه ظلم وفساد كبير . ولهذا فإن الأعمال التجديدية الذي قام بها والجهود التي بذلها من أجل استئناف الحياة الإسلامية وإعادة نقائها وصفائها كما كانت ، هذه الأعمال تجعله على رأس المجددين حتى يومنا هذا .
- إن الخلافة الراشدة التي أسسها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعه عليها من بعده الخلفاء الراشدين المهدين قامت على عدة مبادئ وأسس أهمها الشورى والعدل والأمانة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذه الأسس ظلت قائمة في أعلى مستوياتها في أيام الخلفاء الأربعة وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال ( الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا ) رواه أبو داود . وقد انتهت هذه الخلافة في ربيع الأول عام 41 هـ وبدأت خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وتبدأ طريقة أخرى في الحكم وهو الملك ويقول بن كثير عن معاوية بن ابي سفيان رضي الله عنه أنه أفضل ملوك الإسلام وخيرهم .
- بدأت المبادئ التي قامت عليها الخلافة تنهار الواحدة تلو الأخرى ونتج عن انهيارها ظلم عظيم وتضييع للحق والعدل وتضييع للأمانة وتولية غيرالأكفاء في مناصب الدولة ولم يعد هناك حسن تصرف في المال العام وفقدت الشورى وسادت ثقافة الرأي الواحد ، ثم جاء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز ولن نستطيع في هذه العجالة أن نسرد حياة عمر بن عبد العزيز أو كل ما قام به من عمليات تجديدة ولكن سنحاول الإلمام بما قام به من عمل إصلاحي وتجديدي لهذه الأمة .
- كان ملوك الأمويين يورثون حكمهم وهذه الصورة تخالف مبدأ الشورى أحد المبادئ التي قامت عليها الخلافة ولذلك حينما قُرِأَ كتاب سليمان بن عبد الملك وفيه توريث الملك من سليمان إلى عمر بن عبد العزيز أسف عمر لهذا وقام متباطئا وقام إليه الناس فذهبوا به إلى المنبر فقام وحمد الله وأثنى عليه ثم قال ( ياأيها لناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ، ولا طلبة له ، ولا مشورة من المسلمين ، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ، فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك ياأمير المؤمنين ورضينا بك فلِ أمرنا باليمن والبركة) . فكان هذا أول عمل تجديدي لعمر إذ أعفى الناس من الملك العضوض ورد الأمر إلى الأمة ولم يجبرهم على القبول بشيء لم يختاروه. وقد كان يريد أن لا تنتقل الخلافة من بعده إلا من شخص كفئ لها ولو كان من غير بني أمية فقال رحمه الله ( لو كان لي من الأمر شيء ما عدوت القاسم بن محمد وصاحب الأعوض إسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص) . وقد شجع عمر الناس على الجرأة في قول الحق وإسداء النصيحة فقال ( من صحبني منكم فليصحبني بخمس خصال : يدلني من العدل إلى ما لا أهتدي له ، ويكون لي على الخير عونا ، ويبلغني حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ولا يغتاب عندي أحدا ، ويؤدي الأمانة التي حملها مني ومن الناس ، فإذا كان كذلك فحي هلا به ، وإلا فهو خرج من صحبتي والدخول علي).
- جعل عمر بن عبد العزيز خلافته حجة تاريخية لإمكانية إقامة نظام إقتصادي دون ربا وبرهانا على أن الاحتكام للشريعة الربانية يكفل السعادة للناس في الدنيا والآخرة ويمكن تلخيص ذلك في النقاط التالية :
1- استشعر عمر بن عبد العزيز عظم المسئولية منذ اللحظة الأولى لاستلامه الخلافة وكان يقول ( لست بخير من أحد منكم ، ولكني أثقلكم حملا ) وكان يقول أيضا ( إني أخاف فيما ابتليت به حسابا شديدا ، ومسألة غليظة إلا ما عافى الله ورحم ).
2- كان يطالب عماله باختيار أصحاب الكفاءة والدين فيما يولونه شأنا من شئون المسلمين وقد كتب لأحد عماله : ( لا تولين شيئا من أمر المسلمين إلا المعروف والنصيحة لهم ، والتوفير عليهم ، وآداء الأمانة فيما استرعى).
3- لم يحابي أحد من عائلته أو أسرته الحاكمة وكان يقول لهم :( ما أنتم وأقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء ) .
4- كان زاهدا متورعا عن أموال المسلمين وقد ظهر هذا من أول يوم في خلافته وعندما أتي له بمراكب الخلافة قال : ما هذا ؟ قالوا : مركب الخلافة ، قال دابتي أوفق لي ، وركب دابته ، ثم فيل له : منزل الخلافة ، فقال فيه عيال أبي ايوب ، وفي فسطاطي كفاية حتى يتحولوا ، فأقام في منزله .
5- انخفض دخل عمر السنوي من خمسين الف دينار إلى مائتي دينار وكانت نفقته كل يوم درهمين ، وكان يخطب أحيانا وقميصه مرقع ، وقد قيل له : ( تركت ولد ليس لهم مال ولم تؤوهم إلى أحد ، فقال : ما كنت لأعطيهم ما ليس لهم ، وما كنت لآخذ منهم حقا هو لهم ، وإن وليي الله فيهم الذي يتولى الصالحين ، إنما هم أحد رجلين ، صالح أو فاسق) .
6- ألزم عماله التورع عن أموال المسلمين فقد كتب لأحد عماله ( أن أدق قلمك ، وقارب بين أسطرك ، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين ما لا ينتفعون به ) .
7- عمل على انتزاع الأموال التي أخذها بنو أمية بغير حق وأرجعها لبيت مال المسلمين.
8- ساس الرعية سياسة رحيمة وأمن لهم العيش الرغيد وكفاهم مذلة السؤال فقسم فضول العطاء في أهل الحاجات وأعطى فقراء البصرة ثلاثة دراهم لكل إنسان وطلب من عماله أن يجهزوا من يريد الحج وأمر عماله بعمل خانات (دور ضيافة) للمسافر والمنقطع ليقيم فيها مجانا مع الطعام والشراب وكان يأمرهم أن يعالجوا دابة المسافر مجانا .
9- عز في زمنه من يقبل الزكاة وكانت عنده حرمة المسليمن فوق كل شيء.
10- ألغى الضرائب التي كانت فرضتها الحكومات السابقة .
11- أطلق حرية التجارة في البر والبحر .
- كان عمر محبا لرعيته عادلا فيهم ولم يكن جبارا يستعبدهم فقد استأذنه أحد عماله(عدي بن أرطأة أمير من دمشق) أن يمس المتهمين بشيء من التعذيب حتى يعترفوا فكتب له : ( العجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب بشر ، كأني لك جُنة من عذاب الله ، وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل ، فانظر من قامت عليه بينة عدول ، فخذه بما قامت عليه من البينة ، ومن أقر لك بشيء فخذه بما أقر به ، ومن أنكر فاستحلفه بالله العظيم ، وخل سبيله ، وأيم الله ، لأن يلقوا الله عز وجل بخيانتهم أحب إلى من أن ألقى الله بدمائهم). وكتب للجراح بن الحكمي أمير خراسان : ( يابن أم الجراح : لا تضربن مؤمنا ولا معاهدا سوطا إلا في حق ، واحذر القصاص فإنك صائر إلى من يعلم خائة الأعين وما تخفي الصدور ، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) . بل إن هذا العدل كان يشمل أهل الذمة فقد كتب إلى عماله ( لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار صولحتم عليه) . وقد كان يقول دائما لمسشتاريه : ( إن رأيتم أحدا يتعدى ، أو بلغكم عن عامل ظلامة ، فأحرج بالله على من بلغه ذلك إلا أبلغني).
- ومن أجل الأعمال التي خدم بها عمر بن عبد العزيز الدين أنه أمر بتدوين العلوم الإسلامية وخاصة علم الحديث فقد أصدر أمره لأبي بكر محمد بن حزم قائلا :( انظر ما كان عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه) . وكذلك أجرى للذين تفرغوا لتعليم العلم وتعلمه ما يكفيهم فقد كتب لعماله :( انظر إلى الذين نصبوا أنفسهم للفقه ، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا ، فأعط كل رجل منهم مائة دينار ، يستعينون بها على ما هم عليه من بيت مال المسلمين ، حين يأتيك كتابي هذا).
- كانت خطب عمر بن عبد العزيز ومواعظه مؤثرة وصادقة وتدل على إيمانا قويا ومراقبة جلية وخوفا من الله عز وجل وقد أثرت شخصية عمر وسياسته العادلة تأثيرا بليغا في حياة العامة وميولهم وأذواقهم ورغباتهم فقد ذكر الطبري مقارنة بين عهد عمر وعهود أخرى قائلا : ( كان الوليد صاحب بناء واتخذ المصانع والضياع ، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضا عن البناء والمصانع ، فولي سليمان فكان صاحب نكاح وطعام ، فكان الناس يسأل بعضهم بعضا عن التزويج والجواري ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل : ما ورائك الليله؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم ومتى ختمت؟ وما تصوم من الشهر؟)
- بقي أن نقول أنه أسلم على يديه الكثير من الناس ومن الملوك وكان داعيا لدينه محبا له مهتما به وقد اهتم اهتماما شديدا بداينة الناس وأخلاقهم وكتب لعماله قائلا : ( اجتنبوا الأشغال عند حضور الصلوات ، فمن أضاعها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشد تضييعا).
- كان بود عمر أن لا تنتقل الخلافة من بعده بنفس طريقة توريث الملك فقد ذكر الطبري أن رجلين من الخوارج دخلا على عمر فقالا له:( أخبرنا عن يزيد لمَ تقره خليفة بعدك؟ قال : صيره غيري ، قالا أفرأيت لو وليت مالا لغيرك ثم وكلته إلى غير مأمون عليه ، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمنك ؟ قال : أنظراني ثلاثا ، فخرجا من عنده ، وخاف بنو مروان أن يخرج ما عندهم وفي أيديهم من الأموال ، وأن يخلع يزيد ، فدسوا إليه من سقاه سما فلم يلبث بعد خروجهم من عنده إلا ثلاثا حتى مات). رحمه الله ورضي الله عنه.
- بقي عمر على رأس الخلافة مدة سنيتن وخمسة أشهر ومات سنة 101 هـ رحمه الله ورضي الله عنه. أسأل اله أن يرزقنا قائدا ربانيا كعمر بن عبد العزيز .

ليست هناك تعليقات: