الخميس، ٢٨ فبراير ٢٠٠٨

الملكة .. ماشطة بنات فرعون

لم يحفظ التاريخ اسمها، لكنه حفظ فعلها....امرأة صالحة كانت تعيش هي وزوجها॥ في ظل ملك فرعون.. وجها مقرب منه.. وهي خادمة ومربية لبنات فرعون، منّ الله عليهما بالإيمان.. فلم يلبث فرعون أن علم بإيمان زوجها فقتله، ولكن بقيت الزوجة تعمل في بيت فرعون تمشط بنات فرعون.. وتنفق على أولادها الخمسة.. تطعمهم كما تطعم الطير أفراخها.. فبينما هي تمشط ابنة فرعون يوماً.. إذ وقع المشط من يدها..فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: الله.. أبي؟ فصاحت الماشطة بابنة فرعون: كلا.. بل الله.. ربي.. وربُّك.. وربُّ أبيك، فتعجبت البنت أن يُعبد غير أبيها..ثم أخبرت أباها بذلك.. فعجب أن يوجد في قصره من يعبد غيره فدعا بها.. وقال لها: من ربك ؟قالت : ربي وربك الله فأمرها بالرجوع عن دينها.. وحبسها.. وضربها.. فلم ترجع عن دينها.. فأمر فرعون بقدر من نحاس فمُلئت بالزيت.. ثم أُحمي.. حتى غلاوأوقفها أمام القدر.. فلما رأت العذاب.. أيقنت أنما هي نفس واحدة تخرج وتلقى الله تعالى.. فعلم فرعون أن أحب الناس أولادها الخمسة.. الأيتام الذين تكدح لهم.. وتطعمهم.. فأراد أن يزيد في عذابها فأحضر الأطفال الخمسة.. تدور أعينهم.. ولا يدرون إلى أين يساقون। فلما رأوا أمهم تعلقوا بها يبكون.. فانكبت عليهم تقبلهم وتشمهم وتبكي.. وأخذت أصغرهم وضمته إلى صدرها.. وألقمته ثديها، فلما رأى فرعون هذا المنظر..أمر بأكبرهم.. فجره الجنود ودفعوه إلى الزيت المغلي.. والغلام يصيح بأمه ويستغيث.. ويسترحم الجنود.. ويتوسل إلى فرعون.. ويحاول الفكاك والهرب وينادي إخوته الصغار.. ويضرب الجنود بيديه الصغيرتين.. وهم يصفعونه ويدفعونه.. وأمه تنظر إليه.. وتودّعه. فما هي إلا لحظات.. حتى ألقي الصغير في الزيت.. والأم تبكي وتنظر.. وإخوته يغطون أعينهم بأيديهم الصغيرة.. حتى إذا ذاب لحمه من على جسمه النحيل.. وطفحت عظامه بيضاء فوق الزيت.. نظر إليها فرعون وأمرها بالكفر بالله.. فأبت عليه ذلك.. فغضب فرعون.. وأمر بولدها الثاني، فسحب من عند أمه وهو يبكي ويستغيث.. فألقي في الزيت.. وهي تنظر إليه.. حتى طفحت عظامه بيضاء واختلطت بعظام أخيه.. والأم ثابتة على دينها..موقنة بلقاء ربها، ثم أمر فرعون بالولد الثالث فسحب وقرب إلى القدر المغلي ثم حمل وغيب في الزيت.. وفعل به ما فعل بأخويه، والأم ثابتة على دينها.. فأمر فرعون أن يطرح الرابع في الزيت. فأقبل الجنود إليه.. وكان صغيراً قد تعلق بثوب أمه.. فلما جذبه الجنود.. بكى وانطرح على قدمي أمه.. ودموعه تجري على رجليها.. وهي تحاول أن تحمله مع أخيه.. تحاول أن تودعه وتقبله وتشمه قبل أن يفارقها.. فحالوا بينه وبينها.. وحملوه من يديه الصغيرتين.. وهو يبكي ويستغيث.. ويتوسل بكلمات غير مفهومة.. وهم لا يرحمونه.. وما هي إلا لحظات حتى غرق في الزيت المغلي. وغاب الجسدوانقطع الصوتوشمت الأم رائحة اللحم.. وعلت عظامه الصغيرة بيضاء فوق الزيت يفور بها، تنظر الأم إلى عظامه.. وقد رحل عنها إلى دار أخرى وهي تبكي.. وتتقطع لفراقه، طالما ضمته إلى صدرها.. وأرضعته من ثديها، طالما سهرت لسهره.. وبكت لبكائه، كم ليلة بات في حجرها.. ولعب بشعرها كم قربت منه ألعابه.. وألبسته ثيابهجاهدت نفسها أن تتجلد وتتماسك.. فالتفتوا إليها.. وتدافعوا عليها.. وانتزعوا الخامس الرضيع من بين يديها.. وكان قد التقم ثديها.. فلما انتزع منها.. صرخ الصغير.. وبكت المسكينة.. فلما رأى الله تعالى ذلها وانكسارها وفجيعتها بولدها.. أنطق الصبي في مهده وقال لها:يا أماه اصبري فإنكِ على الحق. ثم انقطع صوته عنها.. وغيِّب في القدر مع إخوته.. ألقي في الزيت.. وفي فمه بقايا من حليبها، وفي يده شعرة من شعرها، وعلى أثوابه بقية من دمعها، وذهب الأولاد الخمسة.. وهاهي عظامهم يلوح بها القدر..ولحمهم يفور به الزيت.تنظر المسكينة.. إلى هذه العظام الصغيرةعظام من؟إنهم أولادها.. الذين طالما ملئوا عليها البيت ضحكاً وسرورا.إنهم فلذات كبدها.. وعصارة قلبها.. الذين لما فارقوها.. كأن قلبها أخرج من صدرها.. طالما ركضوا إليها.. وارتموا بين يديها.. وضمتهم إلى صدرها.. وألبستهم ثيابهم بيدها.. ومسحت دموعهم بأصابعها، ثم هاهم يُنتزعون من بين يديها.. ويُقتلون أمام ناظريها.. وتركوها وحيدة وتولوا عنها.. وعن قريب ستكون معهم، كانت تستطيع أن تحول بينهم وبين هذا العذاب.. بكلمة كفر تسمعها لفرعون.. لكنها علمت أن ما عند الله خير وأبقى.ثم.. لمّا لم يبق إلا هي.. أقبلوا إليها كالكلاب الضارية.. ودفعوها إلى القدر.. فلما حملوها ليقذفوها في الزيت.. نظرت إلى عظام أولادها.. فتذكرت اجتماعها معهم في الحياة.. فالتفتت إلى فرعون وقالت: لي إليك حاجة فصاح بها وقال: ما حاجتك ؟فقالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي فتدفنها في قبر واحدثم أغمضت عينيها.. وألقيت في القدر.. واحترق جسدها.. وطفت عظامها لله درّها..ما أعظم ثباتها.. وأكثر ثوابها.. ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء شيئاً من نعيمها.. فحدّث به أصحابه وقال لهم فيما رواه البيهقي: لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة، قلت: ما هذه الرائحة؟ فقيل لي: هذه ماشطة بنت فرعون وأولادُهاالله أكبــر تعبت قليلاً.. لكنها استراحت كثيراً..مضت هذه المرأة المؤمنة إلى خالقها.. وجاورت ربهاقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها وروى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: من دخل الجنة ينعم لا يبؤس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه. وله في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر..ومن دخل إلى الجنة نسي عذاب الدنياولكن لن يصل أحد إلى الجنة إلا بمقاومة شهواته.. فلقد حفت الجنة بالمكاره.. وحفت النار بالشهوات.. فاتباع الشهوات في اللباس.. والطعام.. والشراب.. والأسواق.. طريق إلى النار.. قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات فاتعبي اليوم وتصبَّري.. لترتاحي غداًفإنه يقال لأهل الجنة يوم القيامة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏أما أهل النار فيقال لهم: اَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ صدق الله العظيم************من كتـاب : إنهـا ملكـة للشيـخ: محمد بن عبدالرحمن العريفي

الخميس، ٢١ فبراير ٢٠٠٨

قاطع منتجات الدنمارك




وثيقة تنظيم البث

أعلنت جامعة الدول العربية يوم 13 فبراير الماضي عن وثيقة تنظيم البث والاستقبال الفضائي في المنطقة العربية واعتمدها وزراء الإعلام العرب في اجتماعهم الاستثنائي الذي عقد في 12 فبراير الماضي . والوثيقة التي أسموها وثيقة الشرف تتكون من اثني عشر بندا تحدد المعايير والضوابط للعمل في القنوات الفضائية والإذاعات التي تبث من العالم العربي .
وفي الحقيقة أنني عندما قرأت لفظ وثيقة الشرف انتابني إحساس بالسعادة . فمازال في بلادنا أناس يبحثون عن شرف المواطن العربي ويعملون على إعلاء قيمة الكلمة المسموعة والمرئية . ويعملون على احترام السيادة العربية وتفعيل التضامن العربي .
ولكن ؟!! عندما قرأت الوثيقة تغير إحساسي ورجعت إلى الواقع الذي نعيشه جميعا ونعلمه . واقع لم نختاره لأنفسنا ولكننا نجبر على العيش فيه . فالسادة الوزراء – وزراء الإعلام وليس الاقتصاد أو الزراعة أو التعليم أو أي وزارة نجني من وراء اجتماعها أي شيء إيجابي – السادة وزراء الإعلام اجتمعوا اجتماعا استثنائيا وليس عاديا ليخرجوا لنا قانونا ليزيد تكميم الأفواه . ويعمل على اتساع رقة الإرهاب الموجه للمواطن العربي . ويعلنها لكل العرب من الخليج العربي إلى المحيط الأطلنطي " أيها المواطن إياك أن تنطق ببنت شفه ".
جاءت بنود "وثيقة الشرف" سيفا مسلطا على رقاب القنوات والإذاعات وتثبيتا لحكم الفرد الذي نتميز به دون الأمم فجاء في الجزء الخامس من البند الرابع "أن ما يذاع في القناة أو الإذاعة لا يؤثر سلبا على السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية ". ولم تعطي الوثيقة تفسيرا واضحا لهذه الألفاظ . فلفظ الوحدة الوطنية لفظ مطاط ومن الممكن أن يفسر على هوى كل شخص بما يريد هو .
وجاء في الجزء الآول من البند الخامس أن على القناة أو الإذاعة "الالتزام بحرية التعبير على أن تمارس هذه الحرية بالوعي والمسئولية" . فما معنى كلمتي الوعي والمسئولية وكيف يتم ضبطها إذا لجأنا إلى الجهات الرسمية .
وجاء في الجزء الخامس من البند الخامس "أحقية المواطن العربي في متابعة الأحداث وخصوصا الرياضية منها" . فالأحداث الرياضية التي تعبر عن حالة من اللعب والمتعة ولا تعبر عن حالة من العمل والاجتهاد . هذه الأحداث مهمة عند من كتب الوثيقة حتى تكون لها خصوصية إلهاء الشعوب وإعطائها نشوة في غير محلها وتفريغ للطاقة في المكان الخطأ . "فللمواطن الحق في مواكبة ومتابعة الأحداث الرياضية خاصة أيا كام مالك حقوق البث حصرية كانت أم غير حصرية" . هكذا جاء البند . أما الأحداث العلمية أو الثقافية أو الدينية فهذه ليس لها خصوصية .
وجاء في الجزء الثالث من البند السادس تلتزم القناة أو الإذاعة "بالامتناع عن التحريض على الكراهية والتمييز القائم على أساس اللون أو الجنس أو الدين" . وهذا البند من حيث الظاهر جميل ولكنه أيضا يظل سيفا على رقبة المتحدثين . فمن الممكن أن ينطق المحاور لفظا أو كلمة يفسرها البعض على أنها تحرض على الكراهية .
وفي الجزء الرابع من نفس البند "تلتزم بالامتناع عن بث كل شكل من أشكال التحريض على العنف والإرهاب" . ولم يذكر البند أي تفسير لكلمة الإرهاب . ولأن المعتاد في عالمنا اليوم أن الإرهاب مقابل الإسلام . فوالله إني أخشى أن يضعوا هذا البند في مقابل كل ما هو إسلامي في القنوات الفضائة . ويبقون فقط على الإسلام الرسمي الذي يرضوا عنه ويباركونه .
وجاء في الجزء الحادي عشر من نفس البند تلتزم القناة أو الإذاعة "بالامتناع عن بث البرامج التي تحتوي على مشاهد أو حوارات جنسية صريحة" . الصريحة فقط . أما الإيحاءات والعري والعبارات الغير صريحة فلا تمتنع عنها . فالقناة حرة أن تذيع كل شيء ولكن لابد أن يكون غير صريح .
وفي البند السابع الجزء الرابع "يجب عدم تناول القادة أو الرموز بالتجريح" . وهذا البند بند تقديس السادة الحكام وعدم نقدهم . وعدم توجيه حتى النصح لهم . وإلا سوف تغلق القناة بكل الأقفال المتاحة .
ملخص الكلام : على كل القنوات والإذاعات أن تسير في اتجاه واحد وهو الاتجاه الذي يرضي ويثبت الأنظمة القائمة . وكأنه إعلان عام " لا تتكلموا ولا تعرضوا ما يعكر الصفو " . هذه الوثيقة تقيد الحرية وتقيد الإبداع .
وجاءت في الوثيقة بنود لذر الرماد في العيون مثل احترام كرامة الإنسان ولا أدري أي إنسان هذا فآخر شيء نتحدث عنه الآن هو كرامة الإنسان العربي . وكذلك مراعاة أسلوب الحوار وآدابه . والالتزام بصون الهوية العربية .
كنت أتمنى أن تعمل الوثيقة على رفع ثقافة المواطن العربي . وزيادة مساحة الحرية . والعمل على زيادة وعي المواطن العربي بهذه المرحلة الدقيقة من تاريخ أمتنا . كنت أتمنى ان تكون نقلة نوعية للإعلام العربي . الإعلام الضعيف أصلا . والذي لا يثق فيه المواطن العربي . الإعلام الذي صنع إنسانا هلاميا ليس له هدف أو غاية . الإعلام الذي غلبت عليه الشهوات وأساليب اللهو . الإعلام الذي يحتاج إلى علاج عاجل على أيدي من يصلحون لأن يكونوا أطباء للإعلام .
كنت أتمنتى أن يعطوا وقت أفضل وأطول للمفكرين والأدباء والشعراء والمصلحين . يعطوا وقت أطول لمن يريد أن يحسن الذوق العام . ويحسن الفكر .
كنت أتمنى أن يحمل إعلامنا فكرة . وأن يرفع من شأن الأمة . وأن يدافع عن ثوباتنا وقيمنا .
وكنت أتمنى أن يجتمع وزراء الاقتصاء اجتماعا استثنائيا وكذلك وزراء الزراعة ووزراء التعليم أم أنه مكتوب على هؤلاء أن لا يجتمعوا .
ولكن في هذا الزمان ليس من حق المواطن البسيط مثلي أن يتمنى . وليس من حقك أي شيء .
ونصيحتي لي ولك أن تغلق فمك وعينك وأذنك من الآن حتى لا تحاسب أنت مع القنوات والإذاعات لأنها متهمة حتى النخاع .

السبت، ١٦ فبراير ٢٠٠٨

رجــال الإصـــــلاح

طيرت وكالات الأنباء خبرا بحجز قضية الإصلاحيين الذين تم تحويلهم للمحكمة العسكرية وتم حجز القضية للحكم يوم 26 فبراير الجاري. وفي الحقيقة أنا لم أكن أتوقع بعد هذا المارثون الطويل من الجلسات وبعد هذا الكم الهائل من المرافعات وبعد الإرهاق والتعب الذي نال من الأهالي ومن المعتقلين وأيضا من القضاة ومن رجال الأمن . بعد هذا كله كنت أتوقع أن يغلب جانب العقل على صناع القرار في بلدي . كنت أتوقع أن تقفل القضية التي شوهت صورة بلدي وشوهت صورة أهل الحل والعقد في هذا البلد. كنت أتوقع أن يصدر صاحب القرار قراره الذي يعيد اللحمة لهذا الشعب. كنت أتوقع أن يفرج عن جميع المعتقلين بلا ضمانات ولا شيء سوى أن يقولوا لهم " لقد كانت هذه المحاكمة عقابا كافيا لكم ".
ولكن ! عقابا على ماذا ؟ هل يعاقب أحد على حب بلده ؟ هل يعاقب المخلص على إخلاصه ؟ هل يعاقب العالم على علمه ؟ وهل يعاقب المعطي لبلده على عطائه ؟.
ولكن ! هذه ضريبة لابد من دفعها. فلا يوجد على ظهر الأرض عمل مثل عملكم إلا عودي أهله وحورب أصحابه. فاصبروا ولا تجزعوا. فأنتم تسيرون على درب الرسل والأنبياء والمصلحون. فاصبروا وتماسكوا واحتسبوا. فإنه الأجر العظيم والفوز لكم لا لمن يحاكمونكم ولا لمن يحاربونكم.
وأنتم يا أسر ويا أبناء المصلحين ويا من تحملون على عاتقكم تربية الأبناء والبنات. لا تجزعوا وكونوا مثالا للصبر والترابط. هنيئا لكم أنكم من أهل الصلاح. ومن أهل المصلحين. هنيئا لكم الأجر والثواب من الله عز وجل. هنئا لكم أن كنتم في المقدمة وإن شاء الله سوف تكونوا في المقدمة يوم العرض. وسيكون الله والملائكة في صفكم أنتم. وسيكون الخذلان والغضب والعار على رأس هؤلاء الذين حاربوكم. والذين هتكوا ستركم والذين آذوا أبناءكم.
وأنت يا أيها القاضي الذي سيقف هذا الموقف أمام المصلحين وأسرهم. ستقف لتنطق بالحكم الذي سيكون في رقبتك أمام الله. اعلم أن للكون إله عادل واعلم أنك ستقف أمامه عاريا ليس بينك وبينه حجاب واعلم أن الذي تخاف منه اليوم لن يكون معك يوم القيامة. بل اعلم أنه سوف يتبرأ منك أمام الله وسيقول لك ما أمرتك بشيء. وعندها لن ينفعك أحد. اعلم يا سيادة القاضي أنك في موقف لا تحسد عليه ولكن من الممكن أن تجني من وراء هذا الموقف ما لا يستطيع أحد أن يجنيه. أرجوك يا سيدي أن تعيد الحق إلى أهله وإن شاء الله أنت أهل لكل خير. أرجوك أن تكون أنت من ينهي هذه المعاناة. فهؤلاء الذين يقفوا أمامك هم أهلك وعشيرتك. هؤلاء هم أهل صلاح وتقوى. لم يرتكبوا جرما واحدا. هؤلاء ليسوا من أهل السوابق. كل سوابقهم خير وعطاء وقيام ليل وحفظ قرآن ومحافظة على بلدنا الغالي مصر. فهل هذه جرائم يا سيدي. أرجوك أن تراعي دموع زوجاتهم وبكاء أطفالهم. سيدي وأنت الآن حكم وإن شاء الله تكون حكم عدل وقد رأيت وشاهدت وعلمت أن كل شيء ملفق وأنه لا يوجد جرائم على الإطلاق أرجو أن تصدر حكمك التاريخي بتبرئة هؤلاء جميعا. وصدقني ستنال رضا الله. ودعاء جميع المتابعين لهذه القضية وهم كثر.
وأنت أخي القارئ اعلم أنه لا تربطني بهؤلاء جميعا صلة قرابة أو نسب. ولكن تربطني بهم وبك صلة أقوى وأعلى من صلة النسب. صلة هي التي تقربنا جميعا وهي التي تجعلنا جميعا في مركب واحد نحاول جميعا إنقاذه. هذه الصلة هي الإسلام. وأيضا صلة الشراكة في هذا الوطن. فنحن جميعا على أرض هذا الوطن شركاء في الحاضر والمستقبل. واعلم أن واجبنا الآن هو الدعاء لهؤلاء بالثبات والدعاء للقضاة بأن يكون قضاة عدل والدعاء لبلدنا وأمنا مصر أن يحفظها الله من كل سوء. وأدعو أخيرا لمن سيتخذ القرار بالهداية.

الأحد، ١٠ فبراير ٢٠٠٨

لن ننساك ولن ينساك محبوك


بسم الله॥إنا لله وإنا اليه راجعون اللهم أجرنا فى مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها॥إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن واننا لفراقك يا أستاذنا لمحزونونإننا لن ننسى استاذنا مجدى مهنا الذى كان دائما جنديا بقلمه وكان يدافع عن المظلومين ويتكلم عنهم ويكشف الظالم । وكلنا نحسبه على خير ولا نزكى على الله احداأسأل الله ان يجعل كلماته التى كان يكتبها بسلاحه_قلمه_فى ميزان حسناته وان يغفر له ما سلف وان كان محسنا فليزد فى احسانه وان كان مسيئا فليتجاوز عن سيئاته وان يجعل كلماته وكتاباته حجة له يوم القيامة تقيه من النار بدعوات المظلومين الذين كان يناقش قضاياهم هو ومن على طريقه ومنهجه॥اللهم لا تحرمنا اجره ولا تفتنا بعده وانا لله وإنا إليه راجعون

الأربعاء، ٦ فبراير ٢٠٠٨

فريق الساجدين لله عز وجل


الحمد لله أننا في بلدنا مصر مازلنا برغم كل ما يحيط بنا من مثبطات وما نقابله كل يوم من منغصات نشاهدها في التليفزيون ونسمعها في الإذاعات . مازلنا بفضل الله نتمسك بديننا ونرتبط بشعائره ولن يثنينا عنها أي شيء. فلقد سعدنا كثيرا حين رأينا لاعبي منتخبنا القومي بعد مباراة أنجولا الأخيرة يجتمعون في الملعب ويسجدون لله عز وجل سجدة شكر . ونرى في جميع المباريات المحلية والعالمية ، يكاد يكون فريقنا القومي هو الفريق الوحيد الذي تجد كل لاعبيه حريصين على السجود بعد كل هدف. ولذا أقترح أن نوقف تسميتنا للفريق القومي بالفراعنة أو أبناء الفراعنة أو حتى أحفاد الفراعنة ولنطلق عليهم فريق الساجدين . ولنعلم جميعا أن ما يفعلونه في الملعب يكون له رد فعل على كل من يشاهدونهم . فالأطفال قبل الكبار يحبون تقليد النجوم . والآن النجوم تسجد لله عز وجل فلنكن جميعا من الساجدين لله عز وجل سجودا ماديا ومعنويا . لتكن كل أفعالنا لله وكل حركاتنا لله.
وكذلك مع فعله نجم الفريق محمد أبو تريكة في تضامنه مع غزة كان أقوى من ألف حديث أو ألف مقال. إنها رسالة واضحة للعالم أجمع أن هذا هي مصر التي تتكاتف مع أمتها دائما.
ومما يسعد القلب أن نقرأ هذا الأسبوع كيف كانت صلاة الجمعة الماضية في معرض الكتاب وكيف صورتها لنا أستاذتنا إيمان القدوسي. فقلد كان النداء حي على الصلاة هو المجمع لكل من في المعرض.
وأيضا كلما ذهبنا للمسجد الحرام في مكة لا تجده أبدا يخلوا من أبناء الكنانة. حتى أنك تسمع كثيرا من ابنا أرض الجزيرة المباركة بإذن الله تسمعهم يقولون لقد أصبح الحرم يعج كثيرا بأبناء الكنانة .
وأيضا الكلام الجميل التي تحدثت به الفنانة حنان ترك عن الإسلام وتمسكها بالحق ومحاولة مشاركتها بإيجابية في المجتمع كونها سيدة مسلمة فاعلة وليست سلبية . ومساهمتها في جمع المساعدات لأهلنا في غزة وكذلك مساهمتها في المجتمع المدني بمحاولة وقف التدخين.
مبشرات كثيرة واستطلاعات للرأي لم يعملها الباحثون ولكنها لكونها ظاهرة ضخمة. لابد أن نكتب عنها ونذكرها في كل مكان. ليعلم الجميع أن بلدنا بلد الخير وأن أهلنا بخير. ويعلم أصحاب البرامج التي تبث فينا اليأس بحجة الحرية والشفافية ليعلموا أن مصر ليست كما يريدوها هم. ولكن مصر هي أنا وأنت وكذلك كل المخلصين من أبناء هذا البلد الطيب.
مصر ليست الفساد والإهمال. مصر ليست القتلة وأصحاب السوابق. مصر ليست التي تباع وتشترى كما كان يفعل السيد المحترم مذيع 90 دقيقة في الحادثة التي كان أحد طرفيها السيدة السعودية. مصر ليست أخبار الراقصات والفنانات. مصر ليست كلها مثل عميد صيدلة بني سويف.
مصر هي العظماء من العلماء والساهرين على حماية هذا البلد. مصر هي من يضحي ليجعل هذا البلد في صدارة الأمم. مصر هي الدين والثقافة والعلم. مصر هي الحضن الدافئ لكل أبنائها. وهي الجار الوفي. والأم الطيبة الحنون التي تفتح ذراعيها لنا جميعا.
ولأن مصر هي بلد الساجدين لله العابدين له المسبحين بحمده. أدعو العلمانيين وبقايا الشيوعيين أن يروا هذا. وأن يعودوا إلى ربهم قبل فوات الأوان. وأقول لهم إن أفعالكم بمصر منذ أكثر من خمسين عاما لم تنجح ولن تنجح بإذن الله. تعبتم أنفسكم وأتعبتمونا معكم. أفسدتم حياتنا بإعلام فاسد وأفلام هابطة وأغان سيئة. وكانت النتيجة كما ترون. لاعبي الكرة يسجدون لله والفنانين يعودون لله والمثقفون يصلون لله. كفاكم وعودوا إلى ربكم لعله يغفر لكم وليس ذلك على الله ببعيد. ووصيتي لي ولك أخي القارئ أن نكون إيجابيين في كل وقت وفي كل مكان في بلدنا وأن لا تسيطر علينا روح اليأس. وأن نكون ممن يبني هذا البلد. يبني في كل شيء وفي كل مكان. فالبناء لابد أن لا يتوقف أبدا.

الأحد، ٣ فبراير ٢٠٠٨

المدن والعواصم في حضارتنا الإسلامية

نحن الآن في القرن الرابع الهجري، أو القرن العاشر الميلادي، وسنلقي نظرة سريعة على مدن العالم الإسلامي ومدن العالم الغربي وسيروعنا الفرق العظيم بين العالمين، سيدهشنا أن نرى عالماً زاخراً بالحياة والقوة والحضارة - وهو العالم الإسلامي – وعالماً بدائياً لا أثر فيه لحياة أو علم أو حضارة – وهو العالم الغربي – ولنحاول المقارنة بين مدن هذين العالمين، ولنبدأ بالعالم الغربي لنرى كيف كانت معيشة سكانه واتساع مدنه ومستوى أهله.
جاء في التاريخ العام للأفيس ورامبو ما يلي: كانت إنكلترا الأنجلوسكسونية في القرن السابع الميلادي إلى ما بعد العاشر فقيرة في أرضها منقطعة الصلات بغير بلادها، سمجة وحشية، تبنى البيوت بحجر غير منحوت، وتشيدها من تراب مدقوق، وتجعلها في وطاء من الأرض، مساكن ضيقة المنافذ، غير محكمة الإغلاق، واصطبلات وحظائر لا نوافذ لها، تقرض الأمراض والأوبئة المتكررة المواشي والسائمة وهي المورد الوحيد في البلاد، ولم يكن الناس أحسن مسكناً وأمناً من الحيوانات، يعيش رئيس القبيلة في كوخه مع أسرته وخدمه ومن اتصل به، يجتمعون في قاعة كبرى في وسطها كانون ينبعث دخانه من ثقب فتح في السقف فتحاً غليظاً، ويأكلون كلهم على خوان واحد، يجلس السيد وقرينته في أحد أطراف المائدة، ولم تكن الشوكات معروفة، وللأقداح حروف من أسفلها، فكان على كل مدعو أن يمسك بيده قدحه، أو يفرغه في فيه دفعة واحدة. وينتقل السيد إلى غرفته في المساء بعد أن يتناولوا الطعام ويعربدوا على الشراب، ثم ترفع المنضدة والصقالات، وينام جميع المجتمعين في تلك القاعة على الأرض. أو على دِكَك، واضعاً كل فرد سلاحه فوق رأسه، لأن اللصوص كانوا من الجرأة بحيث يقتضي على الناس أن يقفوا لهم بالمرصاد كل حين لئلا يؤخذوا على غرة.
وكانت أوروبا في ذلك العهد غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة، تجتاح الناس وتحصدهم. وكانت البيوت في باريس ولندن تُبنى من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب (كبيوت القرى عندنا منذ نصف قرن) ولم يكن فيها منافذ ولا غُرف مدففة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش ينتشرونه على الأرض، ولم يكونوا يعرفون النظافة، ويلقون بأحشاء الحيوانات وأقذار المطابخ أمام بيوتهم، فتتصاعد منها روائح مزعجة، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وكثيراً ما كانوا يؤون معهم الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش فوقه كيس من الصوف، يُجعل مخدة أو وسادة، ولم يكن للشوارع مجارٍ ولا بلاط ولا مصابيح، ولم تكن أكبر مدينة في أوروبا تضم أكثر من خمسة وعشرين ألفاً.
هكذا كان الغرب في القرون الوسطى حتى القرن الحادي عشر فما بعده، باعتراف مؤرخيهم أنفسهم، فلننتقل سريعاً – قبل أن ننسى هذه الصورة – إلى الشرق، إلى حيث المدن والعواصم كبغداد ودمشق وقرطبة وغرناطة وإشبيلية.. لنرى كيف كانت هذه المدن وكيف كانت حضارتها.
لنرى مدن الأندلس، فهي مجاورة لأوروبا التي نتحدث عنها، ولنبدأ بقرطبة، ولنحاول أن نلم بملامحها الظاهرة، لا بكل شيء فيها، فكيف نجدها؟
كانت قرطبة في عهد عبد الرحمن الثالث الأموي عاصمة الأندلس المسلمة، تنار بالمصابيح ليلاً ويستضيء الماشي بسُرجها عشرة أميال لا ينقطع عنه الضوء، (أي ستة عشر كيلومتراً)، أزقتها مبلطة، وقماماتها مرفوعة من الشوارع، محاطة بالحدائق الغناء حتى كان القادم إليها يتنزه ساعات في الرياض والبساتين قبل أن يصل إليها، كان سكانها أكثر من مليون نسمة (في ذلك العصر الذي لم تكن فيه أكبر مدينة في أوروبا تزيد عن خمسة وعشرين ألفاً) وكانت حماماتها تسعمائة حمام وبيوتها 283.000 بيت وقصورها ثمانون ألف قصر، ومساجدها ستمائة مسجد، وكانت استدراتها ثمانية فراسخ (أي ثلاثين ألف ذراع). كان كل ما فيها متعلماً، وكان في ربضها الشرقي مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا في ناحية واحدة من نواحيها، وكان فيها 80 مدرسة يتعلم فيها الفقراء مجاناً، وخمسون مستشفى. وأما مسجدها فكان ولا تزال آثاره حتى اليوم آية خالدة في الفن والإبداع. كان ارتفاع مئذنته أربعين ذراعاً تقوم قبته الهيفاء على روافد من الخشب المحفور، وتستند إلى 1093 من الأعمدة المصنوعة من مختلف الرخام على شكل رقعة الشطرنج فيتألف منها تسعة عشر صحناً طولاً وثمانية وثلاثون صحناً عرضا، وكان يضاء في الليل بأربعة آلاف وسبعمائة مصباح تستنفد في كل سنة 24 ألف رطل من الزيت، وترى في وجهه الجنوبي تسعة عشر باباً مصفحاً، بصفائح برونزية عجيبة الصنع خلا الباب الوسط الذي كان مصفحاً بألواح من الذهب، وترى في كل من وجهه الشرقي الغربي تسعة أبواب مشابهة لتلك الأبواب، أما محرابه فحسبك أن يقول فيه مؤرخو الفرنج (أنه أجمل ما تقع عليه عين بَشَر، وأنه لا يرى أحسن من زخرفه وسنائه في أي أثر قديم أو حديث).
وقد ألحق بقرطبة بناء الزهراء الخالد في التاريخ بفنه وروعته حتى قال فيه المؤرخ التركي ضيا باشا: (إنه كان أعجوبة الدهر التي لم يخطر مثل خيالها في ذهن بنَّاء منذ برأ الله الكون، ولا تمثل رسم كرسمها في عقل مهندس منذ وُجدت العقول).
وفي الزهراء المجلس المسمى (قصر الخلافة) وكان سقفه وحيطانه من الذهب والرخام الغليظ الصافي لون المتلون أجناسه، وفي وسطه حوض عظيم مملوء بالزئبق، وفي كل جانب من جوانب المجلس ثمانية أبواب على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر قامت على سواري من الرخام الملون والبلور الصافي، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها على صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحداً من أهل مجلسه أومأ إلى أحد مواليه فيحرك ذلك الزئبق، فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور، ويأخذ بمجامع القلوب، حتى يخيل لكل من في المجلس أو المحل قد طار بهم ما دام الزئبق يتحرك.
وكان فيها دور الصناعة والآلات: كدار صناعة آلات السلاح للحرب ودار صناعة الحلي للزينة، ودار صناعة النحت والزخارف والتماثيل وغير ذلك من المهن والصناعات، استغرق بناء الزهراء أربع سنوات.
وفي هذا القصر العظيم استقبل الخليفة المستنصر عام 351هـ ملك إسبانيا المسيحية أردون بن اذفونش، وقد أصابه الذهول حينما دخل الزهراء ورأى أبهتها وعظمتها وخدمها وجندها وسلاحها، ثم زاد ذهوله حين وصل إلى مجلس الخليفة المستنصر وفي جانبه عظماء المملكة وأشرافها وفحول العلماء والخطباء وأكابر القواد، فلما قارب ملك الإسبان الدنو من الخليفة المستنصر كشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسراً حتى أذن له الخليفة بالاقتراب منه.
وإذا انتقلنا من ذلك إلى غرناطة تجلت لنا عظمة البناء والعمارة في قصر الحمراء وقد كان آية عجباً يدهش له الناظرون، ولا يزال رغم عوادي الزمن محط أنظار السائحين من بلاد العالم كلها، أُقيم هذا القصر على منحدر جبل يشرف على مدينة غرناطة وحقول البقعة الواسعة الخصيبة المحيطة بها، فبداً من أجمل أمكنة العالم. وكانت فيه قاعات متعددة منها قاعة الأسود، وغرفة الأختين، وقاعة العدل، وقاعة السفراء، ولا يمكننا في هذا الحديث القصير أن نُلم بوصف الحمراء.
وأما الحديث عن المدن الأندلسية الأخرى وما كانت عليه من رقي وعظمة فذلك حديث يطول، وحسبنا أن نذكر هنا أن إشبيلية كان فيها ستة آلاف نول للحرير وحده، وكانت محاطة من كل أطرافها بأشجار الزيتون، ومن ثم كان فيها مائة ألف معصرة للزيت.
ولنتحول بعد ذلك إلى العالم الإسلامي الشرقي لنرى نموذجاً من مدنه الكبرى وحضاراته الرائعة. وسأقتصر هنا على بغداد وكيف كانت حين بنيت من عجائب الدنيا التي لا مثيل لها في القديم.
كانت بغداد قبل أن يبنيها المنصور الخليفة العباسي الشهير ضيعة صغيرة يجتمع فيها على رأس كل سنة التجار من الأماكن القريبة منها، فلما عزم المنصور على بنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، ثم وضع بيده أول آجُرة في بنائها وقال: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله، بلغ مجموع ما أُنفق على بنائها أربعة ملايين وثمانمائة ألف درهم، وبلغ عدد العمال المشتغلين فيها مائة ألف، وكان لها ثلاثة أسوار يلي الواحد منها الآخر. بلغ عدد سكانها مليوني نسمة، وبلغت عدد دروبها وسككها ستة آلاف بالجانب الشرقي وأربعة آلاف بالجانب الغربي، وكان فيها عدا دجلة والفرات، أحد عشر نهراً فرعياً تدخل مياهها إلى جميع بيوت بغداد وقصورها، وكان في نهر دجلة وحده من المعديات (المعبرانيات) ثلاثين ألفاً، أما حماماتها فقد بلغت ستين ألف حمام، وفي أواخر عهد العباسيين بها، تناقص هذا العدد إلى بضعة عشر ألف حمام، وأما مساجدها فقد بلغت ثلاثمائة ألف مسجد، وأما سكانها وكثرة العلماء والأدباء والفلاسفة فذلك فيها لا يحيط به حصر.
ونختم حديثنا هذا بوصف عظمتها في عهد المقتدر بالله ومبلغ ما وصلت إليه أبهة الخلافة في عصره. حين زارها رسول ملك الروم. كانت دار الخلافة في اتساعها تفوق مدينة كبيرة من مدن سوريا اليوم.
فلما وردها رسول ملك الروم أنزل في دار الضيافة ثم صف العسكر من دار الضيافة إلى دار الخليفة, فبلغ عددهم مائة وستين ألف فارس وراجل, فسار بينهم إلى أن بلغ الدار, ثم سلم على الخليفة وأمر أن يطاف به دار الخليفة وقد أفرغت, ولم يبق فيها إلا سبعة آلاف خادم وسبعمائة حاجب وأربعة آلاف غلام أسود, وفتحت الخزائن وآلات السلاح والحرب فيها مرتبة كما ترتب أجهزة العرائس, ولما دخل رسول ملك الروم دار الشجرة ذهل إذ رآها, وكانت شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم, لها ثمانية عشر غصن لكل غصن فيها أغصان صغيرة وقفت عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب وهي تتمايل في الأوقات, ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر, وكل من هذه الطيور الفضية والذهبية يصفر ويهدر, وفي جانب دار الشجرة تماثيل خمسة عشر فارسا على خمسة عشر فارسا قد ألبسوا الديباج وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد, كأن كل واحد منهم يقصد صاحبه, ثم أدخل إلى القصر المعروف بالفردوس فكان فيها من آلت السلاح ما يحصى, ثم أخرج من قصر إلى قصر – في دار الخلافة نفسها - حتى بلغ ما طافه ثلاثة وعشرون قصرا إلى أن عادوا إلى مجلس المقتدر بالله مرة أخرى بعد ما استراحوا سبع مرات. ومما ما زاره رسول ملك الروم في دار الخلافة دار الوحوش وفيها مختلف أنواع الحيوان المستأنسة والمتوحشة, ودار الفيلة وفيها أربعة فيلة على كل فيل ثمانية نفر من الهنود, ودار السباع وفيها مائة سبع, خمسون يمينا وخمسون يسارا, كل سبع منها في يد سباع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد. ولا ريب أن رسول ملك الروم قد بلغت الدهشة في نفسه مبلغها حين رأى عظمة دار الخلافة, فما في الدنيا يومئذ دار كهذه الدار التي رآها, وحسبنا هذا الذي ذكرناه لندرك روعة حضارتنا في إبان عظمتها وقوتها.