الأحد، ٢٩ يونيو ٢٠٠٨

خواطر عائد إلى الحياة ..

كنت ذاهبا إلى صلاة الظهر في مسجد صغير أمام مقر عملي وعند اقترابي من المسجد وأنا غارق في التسبيح وذكر الله فوجئت بنفسي طائرا في الهواء ثم اصطدمت بمقدمة سيارة ونزلت على الأرض فاقدا للوعي وبعد برهة قصيرة استعدت وعيي جزئيا على حديث قائد السيارة بأنه لم يكن يقصد وأنه كان مهموما بعض الشيء وقائد السيارة شاب في أوائل العشرينات من عمره وعندها جاءني أحد الزملاء بكوب من الماء ثم حملوني في السيارة التي صدمتني إلى طوارئ المستشفى وكان إحساسي بأن الموت قد داهمني وكنت أنتظر حدوث ما قرأته كثيرا عن قبض الروح وأحوال الميت وأكاد أجزم أنني رأيت الموت وعشته في هذه الدقائق بل وعشته لأكثر من عشرة أيام بعدها وكان على لساني في هذه اللحظة قول لا إله إلا الله محمد رسول الله بصوت عال ثم قولي يارب لقد سامحت كل من أساء لي في هذه الدنيا فسامحهم جميعا وسامحني واعف عني ، وفي الطوارئ أجريت الفحوصات الأولية وتم استدعاء أطباء العظام والقلب والمخ والأعصاب والجراحة وكان هناك ألم شديد في كل جسمي ولكن كان الألم الأكثر في كتفي الأيمن وكنت لا أستطيع تحريك يدي اليمنى وأرسلوني فورا إلى الأشعة التي قام فيها طبيب الأشعة بعمل أشعات مقطعية على المخ والعمود الفقري ثم أشعة عادية على باقي أجزاء الجسم وتم بعد ذلك تنويمي بالمستشفى تحت الملاحظة وكنت في اليوم الأول غائبا عن الوعي بصورة كبيرة . ولم أبلغ زوجتي ولا أولادي إلا بعد أن أفقت جزئيا بعد صلاة العشاء ، والحمد لله مرت الأمور كلها بعد ذلك بسلام ولم يترك الحادث على جسمي إلا بعض الردود والكدمات وأسأل الله أن يعافيني منها قريبا .
- في العشرة أيام التي تلت الحادث كنت أعيش حياة غريبة فقد كنت أحس أنني لست بين الأحياء بل كنت أحس أنني أعيش بين الأموات وكنت أفكر كثيرا في الموت وكنت أعيش وكأنني داخل فقاعة كبيرة وبيني وبين الناس حاجز غريب وكأن هناك حياة ضبابية أخرى تفصلني عن الناس وبدأ هذا الشعور يتلاشى قليلا الآن ولكن ..
- شغلني هذا الأمر من عدة أوجه وعلى عدة أسئلة : ما هو الموت وما هي الحياة وماذا لو مات الإنسان وعاد مرة أخرى وما دورنا نحن في هذا وهل أنا أو أنت من الأهمية بأن نرى بأن لموتنا أو لحياتنا قيمة وهل هناك أصلا من يهتم بنا سواء أحياءا أم أمواتا ؟ أسئلة كثيرة وأمور عدة جالت في نفسي وأهمها على الإطلاق لماذا نعطي كل شيء في حياتنا قيمة أكبر من حجمها الحقيقي ؟ كل شيء .. نعم .. كل شيء ؟ إذا أصيب أحدنا بالزكام قامت الدنيا ولم تقعد إذا أخطأ علينا أحد ولو بكلمة أو همسة اعتبرنا تصرفه أقرب للخروج من دين محمد صلى اله عليه وسلم ، وقليل هم الذين يعيشون خلق التسامح ، وهكذا نقيم الدنيا ولا نقعدها على كل شيء مهما كان صغيرا أو كبيرا ، ولا نفعل ذلك مع أهم شيء وهو : علاقتنا بالله عز وجل وهذه العلاقة هي حجر الزاوية في حياتنا ويجب أن تكون شغلنا الشاغل ويجب أن تأخذ كل تفكيرنا حتى لا يأتي وقت لا نستطيع فيه إعادة ترتيب حياتنا ولا نستطيع أن نفعل شيء إلا الندم وحينها لا يتفع الندم .
- إن الله عز وجل خلق آدم ونحن بنوه ووجودنا على هذه الأرض لم يتم عبثا لأنه حاش لله أن يكون كذلك فالله عز وجل أكبر من ذلك وأجل وأعلى ، إذا لابد ان نعلم ما هو هدف وجودنا على هذه الأرض حتى نعيش لهذا الهدف ، حتى إذا طرق بابنا ملك الموت نكون جاهزين إذا دخل الملك علينا وذهب بنا إلى الدار الآخرة ، وأنا هنا أحاول أن أخرج بدرس ما من الحادث الذي تعرضت له ولكنه درس بناء لا درس هدم ودرس أكتبه هنا لأنني أعلم أن الحياة لابد أن تستمر إلى ماشاء الله وإلى أن يأذن الله لها بالتوقف .
- إن الموت سنة من سنن الله في الأرض وهو سنة تسير على المخلوقات جميعا الإنسان والحيوان والنبات وما من حي إلا وهو ميت ، وهو في الدين مفارقة الروح للجسد والدخول في البرزخ وبدء الحساب وانتظار البعث وقد ذكر الإمام الغزالي: (أن الموت معناه تغير حال فقط ، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة وإما منعمة، ومعنى مفارقتها للجسد انقطاع تصرفها عنه، بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات الروح، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها) ، وأما في القانون فهوانتهاء شخصية كانت معتبرة، وضياع ذمة مالية، وانتهاء قدرة على التملك وعلى التعامل بيعًا وشراء، وكذلك هو خلو منصب وفراغ من عمل، وانقطاع القدرة على أداء تعهدات وانتهاء وإرادة وانتقال ملك، ونوزعه بالميراث على أفراد آخرين ، وأما عندنا فالموت فراق حبيب وآهات وأنات وعبرات وربما عبرة وعظة وربما ارتياح لأن شخص ما فارق الحياة وكان البعض يتمنى ذلك . والبعض يرى في الموت الخوف والرعب كون ما بعده شيء لا يعلمه أحد ، ولكن يجب أن تكون معرفة الموت أو رؤيته نقطة انطلاق وبداية حياة جديدة لأن الموت باب وما بعد الباب دار وهذه الدار نحن الذي نعمرها أو نخربها . فلابد أن نعمل على إعمار هذه الدار بالأعمال الصالحة الخيرة والأعمال الصالحة كثيرة منها الفرائض والنوافل ، ولكن يأتي فرض الوقت وهذا الفرض هو إعادة الأمة إلى جادة الصواب والعمل على رفع رايتها وإعادتها إلى هويتها كل على حسب تخصصه وعلى حسب مكانه وعلى حسب إمكاناته .
- إن الحياة بعد الموت مبنية على ما تصنعه أيدينا هنا في حياتنا الدنيا ولذلك لابد أن نحسن البناء نبذل كل ما في وسعنا من طاقة ومجهود حتى يخرج البناء عاليا وجميلا وثابتا .
- إن حياتنا على الأرض تنطلق من آيتين كريمتين في القرآن الكريم :
الأولى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
الثانية : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .
ومنها نفهم الآتي :
- إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بقدرات عجيبة وطاقة كامنة وإمكانات واسعة إذا أطلق لها العنان وسخرها لتحقيق أهدافه في الحياة فإنه بذلك يستطيع أن يفجر طاقاته ويصل إلى أفضل المستويات الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإبداعية وإذا أهمل هذه القدرات والملكات فإنه يعيش حياة مشلولة وغير منتجة يلفها الركود والتبلد والفشل . وإن النجاح في حياة الإنسان يحتاج إلى عملية تغيير داخلية . أي أن تقوم بتعديل سلوكك وتبدأ أولى خطوات التغيير بنفسك وتقوم أنت بالمبادرة الذاتية نحو التغيير .
- إن اللاعب الرئيسي وأهم شخص في حياتك هو أنت ولابد أن تعمل على اكتشاف نفسك وتعرفك عليها . فهل لديك المقدرة على الإمساك بزمام أمرك وتطويع ذاتك ووضع قدميك على الخطوات الأولى للتغيير الإيجابي . لا تكن من الكسالى السلبيين وحاول أن تكون نشيطا وفعالا واثقا بربك وحاول الاستفادة من جميع قدراتك . اكتشف نفسك وتعرف على ذاتك وابدأ مشوارا رائعا من النمو الذاتي والتغيير الداخلي والتطوير الشخصي . ضع يدك على مكامن القوة والضعف في شخصيتك . ثم ابدأ بتوظيف عوامل القوة لتحقق أهدافك وتخلص من نقاط الضعف . أو على الأقل اعرف هذه النقاط حتى لا تكون حجر عثرة في طريقك . هل تستطيع أن تستجيب لهذا التحدي ؟ إذا كنت واثقا من ربك صادقا مع نفسك حريصا على مستقبلك وترغب في التغيير الإيجابي فخذ نفسك بقوة وتصالح معها ومارس معها التغيير رويدا رويدا . أما إذا كانت ثقتك مهزوزة وكنت إنسانا مترددا تساورك الشكوك في جدوى التغيير في حياتك فأنت تدور في الحلقة المفرغة التي يدور دائما فيها الإنسان الكسول المتهاون التي لا يستطيع تغيير حياته للأفضل .
الواقع أن كل منا له رسالة محددة في هذه الحياة أو ما يعتقد هو بأنها رسالة ولديه رؤية منبثقة من هذه الرسالة وهذه الرسالة إما أن يكون اكتسبها بخبراته أو أخذها من الآخرين وهنا لابد من طرح سؤال : هل هذه الرسالة التي تتبناها واضحة وصحيحة ؟ وإذا كانت واضحة وصحيحة فهل قناعتك بها راسخة أم أنت مقلد للآخرين ؟ وإذا كانت راسخة فهل قادت إلى تطبيق عملي في حياتك أم أنها لا تزال مشروع نظري تفصلك عنه مسافات بعيدة ؟ وهنا :
لابد أن أسأل نفسي ما هي رسالتي في الحياة ؟ ما هي المثل والقيم والمبادئ التي أرغب أن أعيش في ضوئها وما هي المعايير والضوابط التي أرغب في الحياة تحت ظلها . وما هي رؤيتي للحياة من حولي . وما هي … وما هي ….
- أمسك الورقة والقلم … وهنا البداية :
- وإذا مسكت الورقة والقلم كثرت عليك الأفكار .. فلا تخف واعلم أن تبني رؤية واضحة وسليمة ورسالة صحيحة هي بداية الحياة الحقيقية وهي بداية النجاح .
- أخي : امسك الورقة وفكر بعمق .. أنا أعلم أن الأمر صعب في البداية لكن .. اكتب وعدل وغير في الصياغات حتى تصل إلى قناعة نهائية .
- أخي أمسك الورقة ولا تقلق فبعض الناس يحتاج إلى أسابيع وأشهر ليصل إلى رسالة جيدة .. وبعض الناس يقضي عمره ولا يصل .. وربما غيرت رأيك بعد فترة .. ولكن فقط أمسك الورقة وابدأ .
هذه خواطر كتبتها لي ولك وهذه الكلمات أتوجه بها لنفسي قبل أن أتوجه بها إليك أخي القارئ وأحاول مع نفسي أن أبدأ مرحلة جديدة من حياتي وأسأل الله أن يوفقني ويوفقك لكل ما يحب ويرضى .

الخميس، ١٩ يونيو ٢٠٠٨

رسالة إلى أخي الحبيب - 4

( هذه رسالة أذن الله لها أن تكتب وتنشر فقد كتبت نصفها قبل الحادث الذي تعرضت له وقد اراد الله أن أكملها فالحمد لله على كل حال ..)
أخي الحبيب ..
أخي المسلم في كل مكان أتوجه إليك بالجزء الرابع من الرسالة التي أبثها إليك وأكتب فيها كلمات وهي نبضات حب ينبض بها قلبي وهي حديث أوجهه إلى نفسي قبل أن أتوجه به إليك فهو حديث النفس للنفس علنا نتفق ونتعاون حتى نصل بأنفسنا وأهلينا وأمتنا إلى المستوى الذي نصبو إليه .
أخي الحبيب ..
- إن ما أريده منك هو أن تحمل معي هم هذه الأمة وهم هذا الدين ، تحمله وتساعدني على حمله وبل وتدعو الآخرين لحمل هذا الهم الثقيل بل وتسعى معي وتدعوا الجميع للعمل على تقدم ورقي هذه الأمة ونصرة هذا الدين حتى ترتفع راية الحق خفاقة فوق ديارنا جميعا .
- وعندي لك نفحة عطرة من تاريخنا لشاب يافع حمل هم الأمة فنصر الله به الدين وسأنقل لك حوارا عجيبا لشاب في السابعة عشر من عمره فلتقرأ معي :
- في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك خرجت أربع سفن من جزيرة سيلان تحمل نساء مسلمات وعند ساحل مدينة الديبل الهندية هجم قراصنة هنود على السفن وأخذوا النساء المسلمات أسيرات عندهم وبلغ الخبر الحجاج بن يوسف الذي أرسل إلى ملك السند طالبا منه أن يخلص النساء من القراصنة فاعتذر له فغضب الحجاج وأرسل حملتين لتخليص النسوة ولكن القراصنة أبادوا الحملتين فأسرع الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك طالبا منه الإذن بتسيير جيش لفتح السند وتأديب القراصنة وتحرير النسوة فأجاب الوليد طلب الحجاج بعد إلحاح شديد منه على ذلك وفي طريق عودته إلى العراق جعل يفكر في قائد يوليه قيادة هذا الجيش وحينما وصل إلى قصره وجد بانتظاره محمد بن القاسم وقد بلغه الخبر فبادره قائلا : مولاي الحجاج لقد علمت بما حدث في الديبل فهلا أرسلتني إلى ثغر السند ؟ . ولم يفهم الحجاج مقصد ابن عمه فرد عليه قائلا : نعم الروح روحك يامحمد إني مسيرك إلى هناك في جيش يقوده أبو الأسود بن جهم . فاقترب محمد بن القاسم من أذنيه قائلا : بلاد الفرس في حاجة إلى قائد عرفها وعرف دروبها مثل أبي الأسود فأبقه هناك . فكر الحجاج قليلا ثم قال : ولكن من يقود الجيوش إذن ؟. فقال محمد بن القاسم في نبرة قوية : أرسلني أنا إلى السند ، آتيك بالمسلمات اللائي خطفن وآخذ بثأر المسلمين . فقال الحجاج مترددا : ولكن سنك الصغير يامحمد لا تؤهلك لقيادة الجيش ، فأنت لم تتجاوز عامك السابع عشر. فقال محمد : اختبر بلائي وصدق عزيمتي هذه المرة يابن العم فقال الحجاج : يعجبني إصرارك وإقدامك لكن . فقاطعه محمد قائلا : والله ياأمير العراق ما أريد المنصب ولا القيادة ، إنما أطلب منك أن تعينني على موتة في سبيل الله ، فاقتنع الحجاج وقال : خذ يابني سيفك وامض مجاهدا وفاتحا على بركة الله . وذهب القائد الشاب وجعل الله على يده النصر وفتح بلاد السند وكان عادلا وتقيا وكريما ومعطائا وكان محبوبا من أهل السند .
- هذه الروح وهذا الشعور الذي تملك هذا الشاب المسلم هو الذي أريده أن يتملكنا جميعا ولسنأل أنفسنا : كيف ننام وأهلنا في كثير من بقاع الأرض لا ينامون وكيف نأكل وأهلنا في بقاع الأرض جوعى وكيف نحس بفرح أو سعادة والكآبة والحزن تخيم على أهلنا هنا وهناك ، هذه ليست دعوة لعدم الفرح أو دعوة لليأس ولكنها نداء يقظة وصرخة مدوية أصرخها لعل أحدنا أو كلنا نفهم ما نحن فيه .
- وكأني بالأمة تنادينا مثل نساء المسلمين اللاتي اختطفهن القراصنة ، وكأني بالأمة تنادي وتقول من لي الآن هل يوجد من أبنائي من يحمل همي ، هل يوجد من أبنائي من يريد نصرتي هل يوجد من أبنائي من هو مثل محمد بن القاسم في مثل همته ورغبته في إنقاذ شرف الأمة ونيل السعادة في الدنيا والآخرة أسأل الله أن اكون أنا وأنت منهم . ولكن هل يكفي هذا الصياح لإنقاذ الأمة ؟ بالطبع لا يكفي . فنحن في حاجة إلى فهم جديد لواقع الأمة ونحن بحاجة إلى عمل ضخم ومستمر دون كلل ولا ملل ، نحن بحاجة إلى أن نتكاتف جميعا كل في مكانه وكل في تخصصه ونتفق على أن نكون إيجابيين في حمل هذا الهم وبالعمل لا بالقول والكلام .
- سأل رجل عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائل : أتوشك القرى أن تخرب وهي عامرة ؟ قال عمر : إذا علا فجارها على أبرارها . إذن إن علو الفاجر على البار هو سبب ما نحن فيه الآن فقد علا الفاجر فولى أمثاله . فلا ينفك كل فاجر أن يكون أسير شهواته ثم يكون أسير مصالحه فيظلم ويتعسف فتهدر الطاقات وتتوارى الكفاءات طالبة لنفسها الستر، ستر العرض من الاعتداء والبدن من العذاب وبعدها نجد أنه لا يتصدى للأمة إلا كل جاهل أناني فيعم الاضطراب الاجتماعي ثم الخراب الاقتصادي ثم المدني ثم التخلف العلمي ، وهذا هو وضعنا !!
- ولهذا كان للصحابة رضوان الله عليهم إنكار شديد على من يجلس في بيته متخليا عن مكانه في إصلاح الأمة ومحاربة الباطل فقد قال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ( إن أقل عيب للرجل أن يجلس في داره ) هذا عيب أن تجلس في بيتك حتى ولو كنت صالحا مصليا عابدا لله فلا تجلس في بيتك وكن أحد المصلحين في هذا الزمن الذي قل فيه المصلح الناصح الأمين .
- وهذا نداء آخر للنزول إلى الميدان نداء من الشيخ القدوة العارف عبد القادر الكيلاني رحمه الله وكان فقيها ثقة من فقهاء الحنابلة فقد صاح صيحة من صيحات الحق قائلا ( من كملت معرفته لله عز وجل صار دالا عليه ، يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا ، يعطى القوة حتى يهزم إبليس وجنده ، يأخذ الخلق من أيديهم ، يامن اعتزل بزهده مع جهله ، تقدم واسمع ما أقول : يازهاد الأرض تقدموا ، خربوا صوامعكم واقربوا مني ، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل ، ما وقعتم بشيء ، تقدموا ) قالها رحمه الله وهو في شيخوخته وهكذا هو فهم العالم العامل لله ولإصلاح الأمة وإن كلماته قوية تهز القلب فياأخي خرب صومعتك وانطلق وخذ مكانك في مقدمة الصفوف .
- يقول ابن القيم رحمه الله ( الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته : وقوفه في الصف ساعة ، وجهاده أعداء الله ، أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع ، والعالم الذي عرف السنة ، والحلال والحرام ، وطرق الخير والشر : مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح ) وهذه كلمات من ذهب للإمام يدعوك ويدعوني ويدعوا كل المسلمين لفهم صحيح لدينهم بأنه دين حركة ونشاط وليس دين قعود وخلود للراحة .
- وبعد أن فهمنا وعلمنا أنه واجب علينا الوقوف في صف المصلحين من أبناء هذه الأمة أيا كان مكانهم وموقعهم وعدم الركون إلى الراحة بأي حجة فالسؤال الذي يطرح نفسه كيف أكون أنا ناصرا لأمتي وكيف أكون أنا عاملا على إلى إعادة الأمة إلى مسارها الطبيعي في مقدمة الأمم والعمل على إيقاف التدهور الحاصل على كثير من المستويات ولهذا أقترح عليك أخي أن يكون لك في هذه الدنيا مشروع شخصي .
يقول الدكتور عبد الكريم بكار (فكرة المشروع الشخصي ما زالت غريبة عن المجتمعات الإسلامية ولدى معظم الناس، مع أنه قد يكون هو السبيل الأكثر يسراً والأقل تكلفة والأكثر نجاعة والأقل مخاطرة في إنقاذ الأمة من الحالة الحرجة التي صارت إليها في ظل قصور الداخل وضغوطات الخارج.
المشروع الشخصي يعني التزام المرء بإنجاز شيء يكرس له حياته أو جزءًا كبيرًا منها، وهو من أجل إتقانه وأدائه على أفضل وجه مستعد للتنازل عن بعض الرغبات وتفويت بعض المصالح وذوق طعم العناء.
المشروع الشخصي رؤية تتكون من الهدف والطاقة والإمكانية والبعد الزمني، ولا قيمة لتلك الرؤية إذا لم يتم تجسيدها في خطة عملية ومنطقية واضحة ودقيقة، من خلال مشروعنا الشخصي نعثر على الدور الأمثل الذي يمكن أن نؤديه في هذه الحياة، كما أننا نجيب من خلاله عملياً عن الأسئلة التي لا يتم التقدم الحقيقي من غير الجواب عنها.وأهم تلك الأسئلة سؤالان ضاغطان؛ هما:
1- ما الشيء الذي نستطيع أن نفعله الآن لكننا لا نفعله؟
2- ما العمل الذي إن أديناه بطريقة جديدة تكون نتائجه أفضل؟
ومن المهم أن تكون الأهداف التي ننجزها من خلال ذلك المشروع متصلة بالهدف النهائي الذي على كل مسلم أن يسعى إلى بلوغه، وهو الفوز برضوان الله –تعالى-.
سوف تتقدم أمة الإسلام تقدماً باهراً إذا تمكن 5 % من أبنائها من تقديم نماذج راقية في العلم والتربية والأخلاق والسلوك والعلاقات الاجتماعية والإنتاج والإبداع، فالذي يغير معالم الحياة ليس الأفكار والحكم والمقولات - وإن كانت تشكل الأساس لأي ازدهار-؛ وإنما النماذج الراقية التي يتفاعل معها الناس، ويتخذون منها قدوات يقتدون بها.
الأمم الفقيرة ليست تلك التي لا تملك الكثير من الرجال، ولكنها الأمم التي يتلفت أبناؤها يمنة ويسرة، فلا يرون إلا رجالاً من الطراز الثالث أو الرابع، فيحدث ما يشبه الفتنة الثقافية والضياع السلوكي.
من الصعب أن يكون المرء نموذجاً في أمور كثيرة، لكن من الميسور أن يكون عادياً أو فوق العادي قليلاً في جل شؤونه، ويقدم نموذجاً رفيعاً في شأن أو اثنين أو ثلاثة.
إذا نظرنا في سير صفوة الصفوة من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- لوجدنا أنهم من خلال براعة كل واحد وتفوقه في بعض الأمور تمكنوا من كتابة تاريخ صدر الإسلام، وتأسيس المرجعية الرمزية والشعورية والأخلاقية لأمة الإسلام بطولها وعرضها: هذا يقدم نموذجاً في العدل، وهذا في الأخلاق والتجرد، وهذا في الصدق والأمانة، وهذا في الثبات على المبدأ، وهذا في النبوغ العلمي والفقهي، وهذا في الحنكة العسكرية، وهذا في الكرم والجود، وهذا في البر بوالديه وأرحامه، وهذا في الحياء واللطف والطيبة... وهكذا تم رسم ملامح أفضل مراحل حضارة الإسلام وملامح أكرم الأجيال.
جمال فكرة المشروع الحضاري الشخصي أنه لا يحتاج إلى كثير مال وأحياناً لا يحتاج إلى أي مال. وهو ليس ذا مقاييس صارمة ومعالم محددة، ولذا فإن معظم الناس يستطيعون أن يهتموا بأمر من الأمور يصبحون من خلاله مناراً ومرجعية لغيرهم؛ ومن الذي يمنع المرء أن يقدم نموذجاً في التبكير إلى صلاة الجماعة أو خدمة والديه أو الحرص على الوقت أو التصبر والتحلم وسعة الصدر ...؟
من خلال المشروع الحضاري يحقق المرء لدينه وجماعته ودنياه الكثير من المكاسب، وهو في كل ذلك الكاسب الأول . لكننا نحتاج إلى شيء من البصيرة وشيء من التخطيط وكثير من الهمة والاهتمام وروح المثابرة.
3-المشاركة في الخدمة العامة:
يتجلى الكثير من عظمة الأمم وخيريتها في تمتعها بأعداد كبيرة من المهتمين بالشأن العام والناهضين للقضايا التي لا تدخل في مسؤولية أي جهة من الجهات. وإن في إمكان أي مسلم مهما كانت ظروفه وأوضاعه، ومهما كانت قدراته وإمكاناته أن يسهم في تحسين الحياة العامة وإشاعة الخير ومحاصرة الشر في البلد الذي يعيش فيه. وسيكون من الخطأ الظن أن الإحسان يقتصر على بذل شيء من المال للفقراء. لا ريب أن هناك مشكلات كثيرة لا يحلها إلا المال؛ لكن أيضاً هناك مشكلات كثيرة جداً لا تحتاج في حلها إلى أي مال. وقد كان عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – يخرج إلى السوق مع غلام له، ثم يعود دون أن يشتري أي شيء، وكان غلامه يستغرب، ويتساءل : لماذا كان ذلك ؟! وكان ابن عمر يجيبه أنه خرج من أجل السلام على الناس.
في المسلمين مظلومون يحتاجون إلى مناصرة، وفيهم جهلة يحتاجون إلى تعليم ومنحرفون يحتاجون إلى إرشاد، ومهمومون يحتاجون إلى مواساة... ولو أن كل مسلم بذل ساعة في الأسبوع في التعاون مع مؤسسة خيرية أو في عمل تطوعي عام لتغير وجه الحياة في عالمنا الإسلامي.
نحن أمة تتحدث كثيراً عن حب الخير وعمل الخير، لكن الأرقام والإحصاءات والنتائج الملموسة تدل على أننا في الأعمال التطوعية والأنشطة اللاربحية في مؤخرة الأمم. ويكفي القول: إن القطاع الثالث والذي يشمل الأعمال الخيرية واللاربحية في (إسرائيل) يستوعب 11% من القوة العاملة هناك؛ على حين أنه في أقطارنا الإسلامية لا يستوعب ولا واحداً في المئة!.
من خلال حبّات الرمل تتشكل صحارى شاسعة، ومن خلال قطرات الماء تتشكل بحار ومحيطات، ومن خلال الأعمال الصغيرة والمبادرات الفردية يتشكل مستقبل أمة إذا امتلكنا ما يكفي من العزيمة والوعي ) .
أخي الحبيب ..
أختم كلامي لك بهذا الاقتراح الذي اقترحته عليك الذي آمل أن يلاقي سعة في صدرك وأن يكون بداية خير لي ولك ، وفي نهاية رسالتي لك أشكرك على صبرك وعلى سعة صدرك وعلى حسن خلقك كما وأشكر كل من أهدى إلي نصيحة من الأساتذة الأفاضل .
جمال سيــــد الأهل
Gakgak11@hotmail.com

الثلاثاء، ٣ يونيو ٢٠٠٨

رسالة إلى أخي الحبيب - 3

أخي الحبيب ..
أخي المسلم في كل مكان أتوجه إليك بالرسالة الثالثة التي أتحدث فيها كما وعدتك في الرسالة السابقة عن أمتنا حينما كانت مطيعة لربها وكان الإسلام يقودها وكان الحاكم والمحكوم يدور في فلك الشريعة وفي فلك الحق في أمة كان عنوانها المودة والوئام وكان تعاملها الأمانة والصدق والعدل لن أطيل عليك لنذهب معا إلى الخيال أقصد الخيال الذي كان واقعا ثم ضيعناه بأيدينا .
أخي الحبيب ..
نحن الآن في القرن الرابع الهجري، أو القرن العاشر الميلادي، وسنلقي نظرة سريعة على مدن العالم الإسلامي حيث المدن والعواصم كبغداد ودمشق وقرطبة وغرناطة وإشبيلية.. لنرى كيف كانت هذه المدن وكيف كانت حضارتها.
لنرى مدن الأندلس، فهي مجاورة لأوروبا ، ولنبدأ بقرطبة، ولنحاول أن نلم بملامحها الظاهرة، لا بكل شيء فيها، فكيف نجدها؟
كانت قرطبة في عهد عبد الرحمن الثالث الأموي عاصمة الأندلس المسلمة، تنار بالمصابيح ليلاً ويستضيء الماشي بسُرجها عشرة أميال لا ينقطع عنه الضوء، (أي ستة عشر كيلومتراً)، أزقتها مبلطة، وقماماتها مرفوعة من الشوارع، محاطة بالحدائق الغناء حتى كان القادم إليها يتنزه ساعات في الرياض والبساتين قبل أن يصل إليها، كان سكانها أكثر من مليون نسمة (في ذلك العصر الذي لم تكن فيه أكبر مدينة في أوروبا تزيد عن خمسة وعشرين ألفاً) وكانت حماماتها تسعمائة حمام وبيوتها 283.000 بيت وقصورها ثمانون ألف قصر، ومساجدها ستمائة مسجد، وكانت استدراتها ثمانية فراسخ (أي ثلاثين ألف ذراع). كان كل ما فيها متعلماً، وكان في ربضها الشرقي مائة وسبعون امرأة كلهن يكتبن المصاحف بالخط الكوفي، هذا في ناحية واحدة من نواحيها، وكان فيها 80 مدرسة يتعلم فيها الفقراء مجاناً، وخمسون مستشفى. وأما مسجدها فكان ولا تزال آثاره حتى اليوم آية خالدة في الفن والإبداع. كان ارتفاع مئذنته أربعين ذراعاً تقوم قبته الهيفاء على روافد من الخشب المحفور، وتستند إلى 1093 من الأعمدة المصنوعة من مختلف الرخام على شكل رقعة الشطرنج فيتألف منها تسعة عشر صحناً طولاً وثمانية وثلاثون صحناً عرضا، وكان يضاء في الليل بأربعة آلاف وسبعمائة مصباح تستنفد في كل سنة 24 ألف رطل من الزيت، وترى في وجهه الجنوبي تسعة عشر باباً مصفحاً، بصفائح برونزية عجيبة الصنع خلا الباب الوسط الذي كان مصفحاً بألواح من الذهب، وترى في كل من وجهه الشرقي الغربي تسعة أبواب مشابهة لتلك الأبواب، أما محرابه فحسبك أن يقول فيه مؤرخو الفرنج (أنه أجمل ما تقع عليه عين بَشَر، وأنه لا يرى أحسن من زخرفه وسنائه في أي أثر قديم أو حديث).
وقد ألحق بقرطبة بناء الزهراء الخالد في التاريخ بفنه وروعته حتى قال فيه المؤرخ التركي ضيا باشا: (إنه كان أعجوبة الدهر التي لم يخطر مثل خيالها في ذهن بنَّاء منذ برأ الله الكون، ولا تمثل رسم كرسمها في عقل مهندس منذ وُجدت العقول).
وفي الزهراء المجلس المسمى (قصر الخلافة) وكان سقفه وحيطانه من الذهب والرخام الغليظ الصافي لون المتلون أجناسه، وفي وسطه حوض عظيم مملوء بالزئبق، وفي كل جانب من جوانب المجلس ثمانية أبواب على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر قامت على سواري من الرخام الملون والبلور الصافي، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها على صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحداً من أهل مجلسه أومأ إلى أحد مواليه فيحرك ذلك الزئبق، فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور، ويأخذ بمجامع القلوب، حتى يخيل لكل من في المجلس أو المحل قد طار بهم ما دام الزئبق يتحرك.
وكان فيها دور الصناعة والآلات: كدار صناعة آلات السلاح للحرب ودار صناعة الحلي للزينة، ودار صناعة النحت والزخارف والتماثيل وغير ذلك من المهن والصناعات، استغرق بناء الزهراء أربع سنوات.
وفي هذا القصر العظيم استقبل الخليفة المستنصر عام 351هـ ملك إسبانيا المسيحية أردون بن اذفونش، وقد أصابه الذهول حينما دخل الزهراء ورأى أبهتها وعظمتها وخدمها وجندها وسلاحها، ثم زاد ذهوله حين وصل إلى مجلس الخليفة المستنصر وفي جانبه عظماء المملكة وأشرافها وفحول العلماء والخطباء وأكابر القواد، فلما قارب ملك الإسبان الدنو من الخليفة المستنصر كشف رأسه وخلع برنسه وبقي حاسراً حتى أذن له الخليفة بالاقتراب منه.
وإذا انتقلنا من ذلك إلى غرناطة تجلت لنا عظمة البناء والعمارة في قصر الحمراء وقد كان آية عجباً يدهش له الناظرون، ولا يزال رغم عوادي الزمن محط أنظار السائحين من بلاد العالم كلها، أُقيم هذا القصر على منحدر جبل يشرف على مدينة غرناطة وحقول البقعة الواسعة الخصيبة المحيطة بها، فبداً من أجمل أمكنة العالم. وكانت فيه قاعات متعددة منها قاعة الأسود، وغرفة الأختين، وقاعة العدل، وقاعة السفراء، ولا يمكننا في هذا الحديث القصير أن نُلم بوصف الحمراء.وأما الحديث عن المدن الأندلسية الأخرى وما كانت عليه من رقي وعظمة فذلك حديث يطول، وحسبنا أن نذكر هنا أن إشبيلية كان فيها ستة آلاف نول للحرير وحده، وكانت محاطة من كل أطرافها بأشجار الزيتون، ومن ثم كان فيها مائة ألف معصرة للزيت، يعني مدينة بلا بطالة الكل فيها يعمل وينتج .
ولنتحول بعد ذلك إلى العالم الإسلامي الشرقي لنرى نموذجاً من مدنه الكبرى وحضاراته الرائعة. وسأقتصر هنا على بغداد وكيف كانت حين بنيت من عجائب الدنيا التي لا مثيل لها في القديم.
كانت بغداد قبل أن يبنيها المنصور الخليفة العباسي الشهير ضيعة صغيرة يجتمع فيها على رأس كل سنة التجار من الأماكن القريبة منها، فلما عزم المنصور على بنائها أحضر المهندسين وأهل المعرفة بالبناء والعلم بالذرع والمساحة وقسمة الأرضين، ثم وضع بيده أول آجُرة في بنائها وقال: بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله، بلغ مجموع ما أُنفق على بنائها أربعة ملايين وثمانمائة ألف درهم، وبلغ عدد العمال المشتغلين فيها مائة ألف، وكان لها ثلاثة أسوار يلي الواحد منها الآخر. بلغ عدد سكانها مليوني نسمة، وبلغت عدد دروبها وسككها ستة آلاف بالجانب الشرقي وأربعة آلاف بالجانب الغربي، وكان فيها عدا دجلة والفرات، أحد عشر نهراً فرعياً تدخل مياهها إلى جميع بيوت بغداد وقصورها، وكان في نهر دجلة وحده من المعديات (المعبرانيات) ثلاثين ألفاً، أما حماماتها فقد بلغت ستين ألف حمام، وفي أواخر عهد العباسيين بها، تناقص هذا العدد إلى بضعة عشر ألف حمام، وأما مساجدها فقد بلغت ثلاثمائة ألف مسجد، وأما سكانها وكثرة العلماء والأدباء والفلاسفة فذلك فيها لا يحيط به حصر.
ونختم حديثنا هذا بوصف عظمتها في عهد المقتدر بالله ومبلغ ما وصلت إليه أبهة الخلافة في عصره. حين زارها رسول ملك الروم. كانت دار الخلافة في اتساعها تفوق مدينة كبيرة من مدننا اليوم.
فلما وردها رسول ملك الروم أنزل في دار الضيافة ثم صف العسكر من دار الضيافة إلى دار الخليفة, فبلغ عددهم مائة وستين ألف فارس وراجل, فسار بينهم إلى أن بلغ الدار, ثم سلم على الخليفة وأمر أن يطاف به دار الخليفة وقد أفرغت, ولم يبق فيها إلا سبعة آلاف خادم وسبعمائة حاجب وأربعة آلاف غلام أسود, وفتحت الخزائن وآلات السلاح والحرب فيها مرتبة كما ترتب أجهزة العرائس, ولما دخل رسول ملك الروم دار الشجرة ذهل إذ رآها, وكانت شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم, لها ثمانية عشر غصن لكل غصن فيها أغصان صغيرة وقفت عليها الطيور والعصافير من كل نوع مذهبة ومفضضة وأكثر قضبان الشجرة فضة وبعضها مذهب وهي تتمايل في الأوقات, ولها ورق مختلف الألوان يتحرك كما تحرك الريح ورق الشجر, وكل من هذه الطيور الفضية والذهبية يصفر ويهدر, وفي جانب دار الشجرة تماثيل خمسة عشر فارسا على خمسة عشر فارسا قد ألبسوا الديباج وفي أيديهم مطارد على رماح يدورون على خط واحد, كأن كل واحد منهم يقصد صاحبه, ثم أدخل إلى القصر المعروف بالفردوس فكان فيها من آلة السلاح ما يحصى, ثم أخرج من قصر إلى قصر – في دار الخلافة نفسها - حتى بلغ ما طافه ثلاثة وعشرون قصرا إلى أن عادوا إلى مجلس المقتدر بالله مرة أخرى بعد ما استراحوا سبع مرات. ومما ما زاره رسول ملك الروم في دار الخلافة دار الوحوش وفيها مختلف أنواع الحيوان المستأنسة والمتوحشة, ودار الفيلة وفيها أربعة فيلة على كل فيل ثمانية نفر من الهنود, ودار السباع وفيها مائة سبع, خمسون يمينا وخمسون يسارا, كل سبع منها في يد سباع وفي رؤوسها وأعناقها السلاسل والحديد. ولا ريب أن رسول ملك الروم قد بلغت الدهشة في نفسه مبلغها حين رأى عظمة دار الخلافة, فما في الدنيا يومئذ دار كهذه الدار التي رآها, وحسبنا هذا الذي ذكرناه لندرك روعة حضارتنا في إبان عظمتها وقوتها.
أخي الحبيب ..
إذا أردنا أن نكمل الحديث عن الأمة حين كانت في مقدمة ركب البشرية لن يكفينا مقال ولا كتاب فالتاريخ شاهد على عظمة أمة الإسلام حين كان كتاب الله هو هاديها وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هي حياة الناس ، وهذا مثال ضربناه ليعلم الجميع أننا لسنا لقطاء في هذا العالم وليعلموا أننا صنعنا مجدا نفخر به ونحبه وإن شاء الله سوف نعيده وستعود راية الأمة عالية خفاقة بيد أبنائها البررة التي أنت منهم إن شاء الله ، ولا تظن أخي أنني أتغنى بمجد ولى وذهب لا والله إني أتذكر معك مجدا باق وسيعود قريبا إن شاء الله رضي الأعداء أم أبوا .
أخي الحبيب ..
لا يفوتني هنا إلا أن أذكر قليلا عن وضع أوربا ومدن العالم الغربي في نفس الفترة الزمنية التي تحدثت معك عنها في بداية رسالتي هذه وسيروعنا الفرق العظيم بين العالمين، سيدهشنا أن نرى عالماً زاخراً بالحياة والقوة والحضارة - وهو العالم الإسلامي – وعالماً بدائياً لا أثر فيه لحياة أو علم أو حضارة – وهو العالم الغربي – ولنحاول المقارنة بين مدن هذين العالمين.
جاء في كتاب التاريخ العام للأفيس ورامبو ما يلي: كانت إنجلترا الأنجلوسكسونية في القرن السابع الميلادي إلى ما بعد العاشر الميلادي فقيرة في أرضها منقطعة الصلات بغير بلادها، سمجة وحشية، تبنى البيوت بحجر غير منحوت، وتشيدها من تراب مدقوق ، مساكن ضيقة المنافذ، غير محكمة الإغلاق، واصطبلات وحظائر لا نوافذ لها، تصيب الأمراض والأوبئة المتكررة المواشي والسائمة وهي المورد الوحيد في البلاد، ولم يكن الناس أحسن مسكناً وأمناً من الحيوانات، يعيش رئيس القبيلة في كوخه مع أسرته وخدمه ومن اتصل به، يجتمعون في قاعة كبرى في وسطها كانون (موقد صغير) ينبعث دخانه من ثقب فتح في السقف فتحاً غليظاً، ويأكلون كلهم على خوان واحد، يجلس السيد وقرينته في أحد أطراف المائدة، ولم تكن الشوكات معروفة، وللأقداح حروف من أسفلها، فكان على كل مدعو أن يمسك بيده قدحه، أو يفرغه في فيه دفعة واحدة. وينتقل السيد إلى غرفته في المساء بعد أن يتناولوا الطعام ويعربدوا على الشراب، ثم ترفع المنضدة والصقالات، وينام جميع المجتمعين في تلك القاعة على الأرض. أو على دِكَك، واضعاً كل فرد سلاحه فوق رأسه، لأن اللصوص كانوا من الجرأة بحيث يقتضي على الناس أن يقفوا لهم بالمرصاد كل حين لئلا يؤخذوا على غرة.
وكانت أوروبا في ذلك العهد غاصة بالغابات الكثيفة، متأخرة في زراعتها، وتنبعث من المستنقعات الكثيرة في أرباض المدن روائح قتالة، تجتاح الناس وتحصدهم. وكانت البيوت في باريس ولندن تُبنى من الخشب والطين المعجون بالقش والقصب (كبيوت القرى عندنا منذ نصف قرن) ولم يكن فيها منافذ ولا غُرف مدفئة، وكانت البسط مجهولة عندهم، لا بساط لهم غير القش ينشرونه على الأرض، ولم يكونوا يعرفون النظافة، ويلقون بأحشاء الحيوانات وأقذار المطابخ أمام بيوتهم، فتتصاعد منها روائح مزعجة، وكانت الأسرة الواحدة تنام في حجرة واحدة تضم الرجال والنساء والأطفال، وكثيراً ما كانوا يؤون معهم الحيوانات الداجنة، وكان السرير عندهم عبارة عن كيس من القش فوقه كيس من الصوف، يُجعل مخدة أو وسادة، ولم يكن للشوارع مجارٍ ولا بلاط ولا مصابيح، ولم تكن أكبر مدينة في أوروبا تضم أكثر من خمسة وعشرين ألفاً.
هكذا كان الغرب في القرون الوسطى حتى القرن الحادي عشر فما بعده، باعتراف مؤرخيهم أنفسهم، فإذا عملنا مقارنة بين المشرق الإسلامي المضيء والغرب المظلم سنصل إلى النتيجة التي ألح عليها وهي أننا حين تمسكنا بديننا وثوابتنا كنا قادة الدنيا وحينما تخلينا عن ديننا وثوابتنا أصبحنا في ذيل الأمم وأصبحنا كما أخبر عنا حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها قال قلنا يا رسول الله أمن قلة بنا يومئذ قال أنتم يومئذ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل ينتزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن قال قلنا وما الوهن قال حب الحياة وكراهية الموت ) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخي الحبيب ..
لقد تحدثت معك عن هم الأمة ثم هم الدين ولقد رأينا سويا كيف تكون الأمة حينما تتمسك بدينها ومبادئها وقيمها وأرجو أن تكون رسالتي هذه وصلت إليك ولك مني أرق تحية .
جمال سيــــد الأهل
Gakgak11@hotmail.com