الأحد، ٢٩ يونيو ٢٠٠٨

خواطر عائد إلى الحياة ..

كنت ذاهبا إلى صلاة الظهر في مسجد صغير أمام مقر عملي وعند اقترابي من المسجد وأنا غارق في التسبيح وذكر الله فوجئت بنفسي طائرا في الهواء ثم اصطدمت بمقدمة سيارة ونزلت على الأرض فاقدا للوعي وبعد برهة قصيرة استعدت وعيي جزئيا على حديث قائد السيارة بأنه لم يكن يقصد وأنه كان مهموما بعض الشيء وقائد السيارة شاب في أوائل العشرينات من عمره وعندها جاءني أحد الزملاء بكوب من الماء ثم حملوني في السيارة التي صدمتني إلى طوارئ المستشفى وكان إحساسي بأن الموت قد داهمني وكنت أنتظر حدوث ما قرأته كثيرا عن قبض الروح وأحوال الميت وأكاد أجزم أنني رأيت الموت وعشته في هذه الدقائق بل وعشته لأكثر من عشرة أيام بعدها وكان على لساني في هذه اللحظة قول لا إله إلا الله محمد رسول الله بصوت عال ثم قولي يارب لقد سامحت كل من أساء لي في هذه الدنيا فسامحهم جميعا وسامحني واعف عني ، وفي الطوارئ أجريت الفحوصات الأولية وتم استدعاء أطباء العظام والقلب والمخ والأعصاب والجراحة وكان هناك ألم شديد في كل جسمي ولكن كان الألم الأكثر في كتفي الأيمن وكنت لا أستطيع تحريك يدي اليمنى وأرسلوني فورا إلى الأشعة التي قام فيها طبيب الأشعة بعمل أشعات مقطعية على المخ والعمود الفقري ثم أشعة عادية على باقي أجزاء الجسم وتم بعد ذلك تنويمي بالمستشفى تحت الملاحظة وكنت في اليوم الأول غائبا عن الوعي بصورة كبيرة . ولم أبلغ زوجتي ولا أولادي إلا بعد أن أفقت جزئيا بعد صلاة العشاء ، والحمد لله مرت الأمور كلها بعد ذلك بسلام ولم يترك الحادث على جسمي إلا بعض الردود والكدمات وأسأل الله أن يعافيني منها قريبا .
- في العشرة أيام التي تلت الحادث كنت أعيش حياة غريبة فقد كنت أحس أنني لست بين الأحياء بل كنت أحس أنني أعيش بين الأموات وكنت أفكر كثيرا في الموت وكنت أعيش وكأنني داخل فقاعة كبيرة وبيني وبين الناس حاجز غريب وكأن هناك حياة ضبابية أخرى تفصلني عن الناس وبدأ هذا الشعور يتلاشى قليلا الآن ولكن ..
- شغلني هذا الأمر من عدة أوجه وعلى عدة أسئلة : ما هو الموت وما هي الحياة وماذا لو مات الإنسان وعاد مرة أخرى وما دورنا نحن في هذا وهل أنا أو أنت من الأهمية بأن نرى بأن لموتنا أو لحياتنا قيمة وهل هناك أصلا من يهتم بنا سواء أحياءا أم أمواتا ؟ أسئلة كثيرة وأمور عدة جالت في نفسي وأهمها على الإطلاق لماذا نعطي كل شيء في حياتنا قيمة أكبر من حجمها الحقيقي ؟ كل شيء .. نعم .. كل شيء ؟ إذا أصيب أحدنا بالزكام قامت الدنيا ولم تقعد إذا أخطأ علينا أحد ولو بكلمة أو همسة اعتبرنا تصرفه أقرب للخروج من دين محمد صلى اله عليه وسلم ، وقليل هم الذين يعيشون خلق التسامح ، وهكذا نقيم الدنيا ولا نقعدها على كل شيء مهما كان صغيرا أو كبيرا ، ولا نفعل ذلك مع أهم شيء وهو : علاقتنا بالله عز وجل وهذه العلاقة هي حجر الزاوية في حياتنا ويجب أن تكون شغلنا الشاغل ويجب أن تأخذ كل تفكيرنا حتى لا يأتي وقت لا نستطيع فيه إعادة ترتيب حياتنا ولا نستطيع أن نفعل شيء إلا الندم وحينها لا يتفع الندم .
- إن الله عز وجل خلق آدم ونحن بنوه ووجودنا على هذه الأرض لم يتم عبثا لأنه حاش لله أن يكون كذلك فالله عز وجل أكبر من ذلك وأجل وأعلى ، إذا لابد ان نعلم ما هو هدف وجودنا على هذه الأرض حتى نعيش لهذا الهدف ، حتى إذا طرق بابنا ملك الموت نكون جاهزين إذا دخل الملك علينا وذهب بنا إلى الدار الآخرة ، وأنا هنا أحاول أن أخرج بدرس ما من الحادث الذي تعرضت له ولكنه درس بناء لا درس هدم ودرس أكتبه هنا لأنني أعلم أن الحياة لابد أن تستمر إلى ماشاء الله وإلى أن يأذن الله لها بالتوقف .
- إن الموت سنة من سنن الله في الأرض وهو سنة تسير على المخلوقات جميعا الإنسان والحيوان والنبات وما من حي إلا وهو ميت ، وهو في الدين مفارقة الروح للجسد والدخول في البرزخ وبدء الحساب وانتظار البعث وقد ذكر الإمام الغزالي: (أن الموت معناه تغير حال فقط ، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة وإما منعمة، ومعنى مفارقتها للجسد انقطاع تصرفها عنه، بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات الروح، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها) ، وأما في القانون فهوانتهاء شخصية كانت معتبرة، وضياع ذمة مالية، وانتهاء قدرة على التملك وعلى التعامل بيعًا وشراء، وكذلك هو خلو منصب وفراغ من عمل، وانقطاع القدرة على أداء تعهدات وانتهاء وإرادة وانتقال ملك، ونوزعه بالميراث على أفراد آخرين ، وأما عندنا فالموت فراق حبيب وآهات وأنات وعبرات وربما عبرة وعظة وربما ارتياح لأن شخص ما فارق الحياة وكان البعض يتمنى ذلك . والبعض يرى في الموت الخوف والرعب كون ما بعده شيء لا يعلمه أحد ، ولكن يجب أن تكون معرفة الموت أو رؤيته نقطة انطلاق وبداية حياة جديدة لأن الموت باب وما بعد الباب دار وهذه الدار نحن الذي نعمرها أو نخربها . فلابد أن نعمل على إعمار هذه الدار بالأعمال الصالحة الخيرة والأعمال الصالحة كثيرة منها الفرائض والنوافل ، ولكن يأتي فرض الوقت وهذا الفرض هو إعادة الأمة إلى جادة الصواب والعمل على رفع رايتها وإعادتها إلى هويتها كل على حسب تخصصه وعلى حسب مكانه وعلى حسب إمكاناته .
- إن الحياة بعد الموت مبنية على ما تصنعه أيدينا هنا في حياتنا الدنيا ولذلك لابد أن نحسن البناء نبذل كل ما في وسعنا من طاقة ومجهود حتى يخرج البناء عاليا وجميلا وثابتا .
- إن حياتنا على الأرض تنطلق من آيتين كريمتين في القرآن الكريم :
الأولى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
الثانية : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة .
ومنها نفهم الآتي :
- إن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان بقدرات عجيبة وطاقة كامنة وإمكانات واسعة إذا أطلق لها العنان وسخرها لتحقيق أهدافه في الحياة فإنه بذلك يستطيع أن يفجر طاقاته ويصل إلى أفضل المستويات الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإبداعية وإذا أهمل هذه القدرات والملكات فإنه يعيش حياة مشلولة وغير منتجة يلفها الركود والتبلد والفشل . وإن النجاح في حياة الإنسان يحتاج إلى عملية تغيير داخلية . أي أن تقوم بتعديل سلوكك وتبدأ أولى خطوات التغيير بنفسك وتقوم أنت بالمبادرة الذاتية نحو التغيير .
- إن اللاعب الرئيسي وأهم شخص في حياتك هو أنت ولابد أن تعمل على اكتشاف نفسك وتعرفك عليها . فهل لديك المقدرة على الإمساك بزمام أمرك وتطويع ذاتك ووضع قدميك على الخطوات الأولى للتغيير الإيجابي . لا تكن من الكسالى السلبيين وحاول أن تكون نشيطا وفعالا واثقا بربك وحاول الاستفادة من جميع قدراتك . اكتشف نفسك وتعرف على ذاتك وابدأ مشوارا رائعا من النمو الذاتي والتغيير الداخلي والتطوير الشخصي . ضع يدك على مكامن القوة والضعف في شخصيتك . ثم ابدأ بتوظيف عوامل القوة لتحقق أهدافك وتخلص من نقاط الضعف . أو على الأقل اعرف هذه النقاط حتى لا تكون حجر عثرة في طريقك . هل تستطيع أن تستجيب لهذا التحدي ؟ إذا كنت واثقا من ربك صادقا مع نفسك حريصا على مستقبلك وترغب في التغيير الإيجابي فخذ نفسك بقوة وتصالح معها ومارس معها التغيير رويدا رويدا . أما إذا كانت ثقتك مهزوزة وكنت إنسانا مترددا تساورك الشكوك في جدوى التغيير في حياتك فأنت تدور في الحلقة المفرغة التي يدور دائما فيها الإنسان الكسول المتهاون التي لا يستطيع تغيير حياته للأفضل .
الواقع أن كل منا له رسالة محددة في هذه الحياة أو ما يعتقد هو بأنها رسالة ولديه رؤية منبثقة من هذه الرسالة وهذه الرسالة إما أن يكون اكتسبها بخبراته أو أخذها من الآخرين وهنا لابد من طرح سؤال : هل هذه الرسالة التي تتبناها واضحة وصحيحة ؟ وإذا كانت واضحة وصحيحة فهل قناعتك بها راسخة أم أنت مقلد للآخرين ؟ وإذا كانت راسخة فهل قادت إلى تطبيق عملي في حياتك أم أنها لا تزال مشروع نظري تفصلك عنه مسافات بعيدة ؟ وهنا :
لابد أن أسأل نفسي ما هي رسالتي في الحياة ؟ ما هي المثل والقيم والمبادئ التي أرغب أن أعيش في ضوئها وما هي المعايير والضوابط التي أرغب في الحياة تحت ظلها . وما هي رؤيتي للحياة من حولي . وما هي … وما هي ….
- أمسك الورقة والقلم … وهنا البداية :
- وإذا مسكت الورقة والقلم كثرت عليك الأفكار .. فلا تخف واعلم أن تبني رؤية واضحة وسليمة ورسالة صحيحة هي بداية الحياة الحقيقية وهي بداية النجاح .
- أخي : امسك الورقة وفكر بعمق .. أنا أعلم أن الأمر صعب في البداية لكن .. اكتب وعدل وغير في الصياغات حتى تصل إلى قناعة نهائية .
- أخي أمسك الورقة ولا تقلق فبعض الناس يحتاج إلى أسابيع وأشهر ليصل إلى رسالة جيدة .. وبعض الناس يقضي عمره ولا يصل .. وربما غيرت رأيك بعد فترة .. ولكن فقط أمسك الورقة وابدأ .
هذه خواطر كتبتها لي ولك وهذه الكلمات أتوجه بها لنفسي قبل أن أتوجه بها إليك أخي القارئ وأحاول مع نفسي أن أبدأ مرحلة جديدة من حياتي وأسأل الله أن يوفقني ويوفقك لكل ما يحب ويرضى .

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

الأخ جمال خواص
أولا أشكر لك وقت الذي أمضيته لتمتعنا بهذا المقال الرائع الذي ان دل على شيء انما يدل على أن الكلمة الصادقة والكلمة الفنية ذات اللمسة الدينية لا زالت بخير.
ثانيا أتمنى أن تكتب لنا أكثر عن المقترحات الموجودة لبناء أمتنا على أرض الواقع وما هو المطلوب مني كمسلم عادي يريد أن ينهض بأمته.
وجزاكم الله خيرا
أخوكم/ د. ســــعد فتحي عبد التواب