الخميس، ١٣ ديسمبر ٢٠٠٧

النزعة الإنسانية في حضارتنا الإسلامية

ولنكمل مع الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في الحديث عن حضارتنا :
النزعة الإنسانية : لا يسع الباحث في حضارتنا الخالدة وآثارها إلا أن يعني بالنزعة الإنسانية التي تميزت بها حضارتنا عن كل الحضارات، فنقلت الإنسانية من أجواء الحقد والكراهية والتفرقة والعصبية إلى أجواء الحب والتسامح والتعاون والتساوي أمام الله، ولدى القانون، وفى كيان المجتمع تساويا لا أثر فيه لاستعلاء عرق على عرق، أو فئة على فئة، أو أمة على أمة.. وإن هذه النزعة لتتجلى في مبادئ حضارتنا وتشريعها وواقعها.
أما النزعة الإنسانية في مبادئها فذلك حين يعلن الإسلام أن الناس جميعا خلقوا من نفس واحدة ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً(النساء- 1. فالأصل البشري لأبناء البشـرية قاطبة هـو أصل واحد. ومهما تفرق الناس بعد ذلك إلى أمم وقبائل وبلدان وأجناس، فإنما هو كتفرق البيت الواحد والأخوة من أب واحد وأم واحدة. وما كان كذلك فسبيل هذا الاختلاف في أجناسهم وبلدانهم أن يؤدي إلى تعاونهم وتعارفهم وتلاقيهم على الخير، ومن ذلك انبثق المبدأ الإنساني الخالد) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات- 13 . والكل سواء، سواء عند الله في آدميتهم وإنسانيتهم لا تمايز بينهم إلا بالتقوى )إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات- 13، وهم سواء أمام القانون في الخضوع له، لا تمايز بينهم إلا بالحق ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(الزلزلة- (7-8)، وهم سواء في كيان المجتمع، يتأثر قويهم بضعيفهم، ومجموعهم لعلم أفراد منهم (مثل المؤمنين في توادَهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر) رواه مسلم وأحمد.
وأما النزعة الإنسانية في تشريعنا الحضاري، فإنك لتلمس ذلك واضحا في كل باب من أبواب التشريع، في الصلاة يقف الناس جميعا بين يدي الله لا يخصص مكانا لملك أو عظيم أو عالم. وفي الصوم يجوع الناس جوعا واحدا لا يفرد من بينهم أمير، أو غني، أو شريف. وفي الحجّ يلبس الناس لباسًا واحدًا، ويقفون موقفاً واحداً، ويؤدون منسكاً واحداً، لا تمييز بين قاص ودان، وقوي وضعيف، وأشراف وعامة. فإذا انتقلت من ذلك إلى أحكام القانون المدني وجدت الحق هو الشرعة السائدة في العلاقة بين الناس، والعدل هو الغرض المقصود من التشريع، ودفع الظلم هو اللواء الذي يحمله القانون ليفئ إليه مضطهد ومظلوم. فإذا انتقلت من ذلك إلي القانون الجزائي وجدت العقوبة واحدة لكل من يرتكبها من الناس، فمن قتل قُتل، ومن سرق عوقب، ومن اعتدى أُدب، لا فرق بين أن يكون القاتل عالما أو جاهلا، والمقتول أميرا أو فلاحا، ولا فرق بين أن يكون المعتدي أمير المؤمنين، أو صانع النسيج، والمعتدي عليه أعجمياً أو عربياً، شرقياً أو غربياً، فالكل سواء في نظر القانون ) الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى(البقرة- 178.
ويسمو التشريع إلى أرفع من هذا حين يثبت الكرامة الإنسانية للناس جميعا بقطع النظر عن أديانهم وأعراقهم وألوانهم فيقول: )وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ(الإسراء- 70 هذه الكرامة هي التي تضمن للناس جميعاً حقهم في الحياة والعقيدة والعلم والعيش، هي للناس جميعا، ومن واجب الدولة أن تكفلها لهم على قدم المساواة بلا استثناء. ويسمو التشريع فوق هذا إلى ذروة عالية من السمو الإنساني حين يجعل أساس المثوبة والعقاب للناس لا على ظواهر أفعالهم بل على نواياهم (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم) رواه مسلم ، فالنية هي محل المؤاخذة أو الإثابة: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) رواه أئمة السنة كلهم ، والنية المقبولة عند الله هي نية الخير والنفع للناس وابتغاء وجه الله ومرضاته دون غرض مادي، أو نفع تجاري )وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(الحج- 78.
ويبلغ التشريع أعلى ذروة من النزعة الإنسانية حين يقرر وحدة العوالم كلها من إنسان وحيوان ونبات وجماد وأرض وأفلاك في سلك العبودية لله والخضوع لنواميس الكون، وما أروع ما يطلبه القرآن من المسلم أن يذكره في كل ركعة من ركعات صلاته )الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(الفاتحة- (2-3)، إنه لواجب أن يذكر المسلم أنه جزء من الكون مخلوق لإلّه واحد متصف بالرحمة البالغة الشاملة، فليكن المسلم في هذا العالم الذي يعيش فيه وهو محتاج إليه مثالا للرحمة التي يتصف بها الله، وهو غني عن العالمين.
هذه هي مظاهر النزعة الإنسانية في مبادئ حضارتنا وتشريعها حين أُعلنت للناس، فكيف كان واقعها حين حكمت وانتصرت؟ هل ظلت تلك المبادئ ميثاقاً كميثاق حقوق الإنسان في شرعة الأمم تحتفل الدول بذكرى إعلانه يوماً في كل عام، بينما تمتهنه الدول الكبرى في كل ساعة وفي كل يوم وفي كل شهر من شهور السنة؟.. هل ظلت تلك المبادئ حبيسة في البلد الذي أُعلنت فيه كما احتبست مبادئ الثورة الفرنسية في فرنسا وحرِّمت علي مستعمراتها والبلدان الواقعة تحت حكمها أو انتدابها؟ هل نصبت تماثيل جديدة كما نصب تمثال الحرية في نيويورك أول ما يراه القادم إلى تلك الديار، بينما تنطق أعمال أمريكا في خارجها نطقا يلعن الحرية ويهزأ بها ويضطهد عشاقها الأحرار؟.. لنستمع إلى التاريخ فهو أصدق شاهد، لنستمع إلى روائع النزعة الإنسانية في حضارتنا وكيف أعلنتها حقائق ناطقة في تصرفات أفرادها وحكامها:
تغاضب أبا ذر، وهو عربي من غفار، مع بلال الأسود الحبشي مولى أبي بكر رضي الله عنه وتطور النزاع بينهما إلى أن أخذت أبو ذر الحدة فقال لبلال: يا ابن السوداء! فشكاه بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي ذر: (أعيرته بأمه؟إنك امرؤ فيك جاهلية)! فقال أبو ذر وقد ظن الجاهلية هي الانحراف الأخلاقي الشهواني الذي لا يأتيه إلا الشباب: على ساعتي هذه من كبر السن؟.. قال: نعم، (هم إخوانكم) رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فندم أبو ذر وتاب حتى أنه أمر بلالا أن يطأه على وجهه مبالغة في التوبة والندم.
وسرقت امرأة من بني مخزوم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وجيء بها إليه لتعاقب، فأهم ذلك قريشا وقالوا: من يشفع لنا عند رسول الله في إسقاط الحد عنها؟ ثم ذكروا أن أسامة بن زيد حبيب إلى قلب الرسول فكلموه في أن يشفع لها عنده، فكلمه بذلك فغضب عليه الصلاة والسلام غضبا شديدا وقال لأسامة: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قام في الناس خطيبا فقال: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) رواه البخاري ومسلم وأحمد.
ولما كان عهد أبي بكر كان مثال الرئيس المتواضع الذي تملأ الإنسانية قلبه ونفسه، فإذا هو وهو خليفة، يأتي لبنات الحي ممن فقدن آباءهن في الحروب فيحلب لهن غنمهن ويقول: أرجو أن لا تغيرني الخلافة عن خُلق كنت أعتاده من قبل.
وكان عمر مثال الخليفة الغيور على الشعب البار بالضعفاء، الشديد في الحق، الناس عنده سواء، بل يحرم نفسه ليعطي الناس، ويجوع ليشبعوا، وكان يتفقد الناس في بيوتهم ومنازلهم وقصصه في ذلك مشهورة ومعروفة:
رأى مرة في السوق شيخاً كبيراً يسأل الصدقة فقال له: ما أنت يا شيخ؟ قال: أنا شيخ كبير أسأل الجزية والنفقة، وكان يهودياً من سكان المدينة. فإذا بعمر الإنساني العظيم يقول له: ما أنصفناك يا شيخ. أخذنا منك الجزية شاباً ثم ضيعناك شيخاً. وأخذ بيده إلى بيته ففرض له ما كان من طعامه. ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول: إفرض لهذا وأمثاله ما يغنيه ويغني عياله!.. ووضع الجزية عن فقراء أهل الذمة.
ولنستمع إلى ما هو أروع من هذا في تاريخ حضارتنا.. حدث أسلم خادم عمر قال: خرجت مع عمر ليلة وبعدنا عن المدينة ونحن نتفقد أهل المنازل النائية، فبصرنا بنار من بعيد فقال عمر: إني أرى هاهنا ركباناً قصّر بهم الليل والبرد، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاعون (أي يتصايحون ويبكون) فسلّم عمر ثم سأل المرأة ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: وأي شيء في القدر؟ ماء أسكتهم به حتى يناموا.. والله بيننا وبين عمر! (تشكو عمر وتدعو عليه) فقال: أي رحمك الله وما يُدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا؟ فأقبل عليَّ فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلاً من دقيق، وكبة من شحم، وقال: احمله عليّ، قلت: أنا أحمله عنك: قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة لا أم لك؟! فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرُّ لك، وجعل ينفخ تحت القدر وكانت لحيته عظيمة، فرأيت الدخان يخرج من خلال لحيته حتى طبخ لهم، ثم أنزلها وقال: أبغني شيئاً، فأتته بصفحة فأفرغها فيها، فجعل يقول لها أطعميهم وأنا أسطح لهم (أبسطه حتى يبرد)، فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت بهذا الأمر أولى من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله! ثم تنحى ناحية عنها، ثم استقبلها فربض مربضاً، فقلت له: لك شأن غير هذا؟ فلا يكلمني، حتى رأيت الصبية يصطرعون، ثم ناموا وهدأوا. فقام يحمد الله، ثم أقبل علي فقال: يا أسلم، إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيتَ.
ويأتي عمر يوما شابٌ مصري قبطي يحمل شكوى من ابن حاكم مصر، العربي الشريف عمرو بن العاص.. وقد سابق ابنه محمد يوماً، فسبقه القبطي.. فضربه ابن عمرو بن العاص وهو يقول: (أتسبقني وأنا ابن الأكرمين).. فيستدعي عمر الحاكم وابنه.. ويناول القبطي الدرة ويقول له: (اضرب ابن الأكرمين).. فيقتص القبطي من ابن حاكم بلده.. ثم يقول عمر: (أدرها على صلعة عمرو.. فما ضربك إلا بسلطان أبيه).. ثم يلتفت إلى عمرو بن العاص وابنه ويعلنها مدوية خالدة.. (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)؟!
وبعد فليس عمر وحده هو الذي صنعته حضارتنا رجلاً يمثل الإنسانية الكاملة الرحيمة، ففي أبي بكر وفي عثمان وفي علي وفي عمر بن عبد العزيز وفي صلاح الدين وفي غيرهم من علماء حضارتنا وعظمائها وقادتها وعبّادها وفلاسفتها، في كل واحد من هؤلاء مثلٌ خالد على سمو النزعة الإنسانية في حضارتنا الخالدة.

ليست هناك تعليقات: