الاثنين، ١٧ ديسمبر ٢٠٠٧


أخلاقنا الحربية : وإليكم جانباً جديداً من جوانب النزعة الإنسانية في حضارتنا، وهو جانب تنفرد به حضارتنا ، إن حسن الخلق، ولين الجانب، والرحمة بالضعيف، والتسامح مع الجار والقريب، تفعله كل أمة في أوقات السلم مهما أوغلت في الجهل،ولكن حسن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصف به ، إن رؤية الدم تثير الدم، والعداء يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تسكر الفاتحين فتوقعهم في أبشع أنواع التشفي والانتقام، ذلك هو تاريخ الدول قديمها وحديثها، بل هو تاريخ الإنسان منذ سفك قابيل دم أخيه هابيل: ( إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَـالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِـنَ الْمُتَّقِينَ)(1).وهنا يضع التاريخ إكليل الخلود على قادة حضارتنا عسكريين ومدنيين، فاتحين وحاكمين، إذ انفردوا من بين عظماء الحضارات كلها بالإنسانية الرحيمة العادلة في أشد المعارك احتداماً، وفي أوقات الحالات التي تحمل على الانتقام والثأر وسفك ، وأقسم لولا أن التاريخ يتحدث عن هذه المعجزة الفريدة في تاريخ الأخلاق الحربية بصدق لا مجال للشك فيه، لقلت إنها خرافة من الخرافات، وأسطورة لا ظل لها على الأرض!، حضارتنا والعالم كله يسير على سنة الغاب. القوى يقتل الضعيف، والمسلّح يسترق الأعزل، والحرب شرعة معترف بها بين جميع الشرائع والديانات والأمم والشعوب، من غير قيدٍ ولا حدّ، ومن غير تفريق بين حرب جائزة وحرب ظالمة، فكل من استطاع أن يغلب أمة على أرضها ويكرهها على عقيدتها، ويسترق رجالها ونساءها، فعل من غير تحرج ولا تأثم. فلم ترضّ حضارتنا أن تقر هذه الشرعة الظالمة التي تردت فيها الإنسانية إلى مستوى الحيوانية الشرسة، بل أعلنت أن الأصل في العلائق بين الأمم التعارف والتعاون: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)(2) وبذلك كان السلم هو العلاقة الطبيعية بين الشعوب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)(3) فإذا أبت أمة إلا الحرب والعدوان على أمة أخرى، كان على هذه الأمة أن تستعد لمجابهة العدوان، فإن ترك الاستعداد يغري بالعدوان ويسرع به: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)(4). فإذا عدلت تلك الأمة عن نية العدوان ورهبت السلم المسلح، كان على الأخرى أن تركن إلى السلم وتحرص عليه: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(5). وإن أبت إلا الحرب، فالقوة تدفع القـوة، والعـدوان يـدفع بمثله: ( وَقَاتِلُوا فِـي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ)(6). وهنا تعلن مبادئ حضارتنا تحريم الحروب للغزو ونهب الأموال، وإذلال كرامة الشعوب، إنما الحرب المشروعة ما كانت إلا لغايتين اثنتين:1- دفاع عن عقيدة الأمة وأخلاقها.2- ودفاع عن حرية الشعب واستقلاله وسلامه، (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)(7). وليست حرية العقيدة هي المطلوبة للأمة التي تعلن الحرب فحسب، بل عليها أن تضمن حرية العقائد كلها، وتحمي أماكن العبادة لكل الديانات: ( وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)(8). وأروع ما نادت به حضارتنا أن الدفاع عن الضعفاء المستذلين في الشعوب الأخرى واجب علينا كما يجـب الـدفاع عـن حريتنـا وكرامتنا: (وَمَا لَكُـمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)(9).وإذا كانت هذه الغاية من حروب حضارتنا، لم يجز لها حين تعلن الحرب في سبيل الحق والخير أن تنقلب إلى أداة تصنع الباطل والشر. ومن أجل ذلك كان من مبادئ حضارتنا في الحرب أن لا تقاتل إلا من يقاتلها ويعتدي عليها: ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(10). فإذا قامت الحرب كان علينا أن لا ننسى مبادئنا فنقسو ونفسد ونظلم وننشر الخراب -كلا- فالحرب الإنسانية الخالصة لله يجب أن تظل إنسانية في وسائلها وعند اشتداد وطيسها। ومن هنا جاءت الوصايا التي لم يسبق لها في التاريخ: (لا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيـراً، ولاشيخاً كبيراً، ولا امـرأة، ولا تعقـروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له)(11).أريت كيف تكون الحرب الإنسانية التي تشرع في سبيل الله لا للشر والعدوان؟॥ وتستمر هذه الحرب متقيدة بهذه المبادئ الإنسانية الرحيمة حتى تنتهي بأحد أمرين: إما الصلح، وإما النصر. أما الصلح فالعهود فيه محترمة، والوفاء بما تضمنته واجب: ) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً((12). وأما النصر، فهو انتصار الجماعة التي غضبت للحق واستشهدت في سبيله. فلن تفعل حين انتصارها إلا ما يوطد أركان الحق في الأرض، ويمنع البغي والفساد بين الناس: )الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّـهِ عَاقِبَةُ الأُمُـورِ((13). وهـذا كما ترون تحديد لأعمال الدولة المنتصرة ورسالتها بعد النصر: سمو بالروح، وعدالة في المجتمع وتعاون على الخير ونفع الناس، ومكافحة للشر والفساد في الأرض.هذه هي مبادئ الحرب في حضارتنا، وتلك هي أخلاقنا الحربية: عدل ورحمة ووفاء.وليس يكفي هذا في رأينا للإشارة بروح حضارتنا المسالمة في الحرب، فالمبادئ وحدها ليست دليلاً على سمو أمة وإنسانيتها. ولطالما رأينا أمما تحمل للناس أرفع المبادئ وهي تعيش معهم في أقساها وأخسها وأبعدها عن الإنسانية والرحمة!ولنبدأ قبل كل شيء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو رائد حضارتنا وواضع أساسها وشريعتها، وهو التعبير الصادق عن أخلاقها وأهدافها ورسالتها، ولسنا نعلم أحداً من الأنبياء والمرسلين والمصلحين عُذب واضطهد وأوذي في سبيل دعوته كما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثة عشر عاماً في مكة كلها كيد وأذى وسب وتعذيب له ولجماعته، ومؤامرات على حياته وحياة أصحابه. وعشر سنوات في المدينة.. هي كفاح ومعارك متواصلة، لم يخلع فيها لباس الحرب إلا حين خضعت له جزيرة العرب قبيل وفاته! ومن خاض الحروب وحمل السيف، وقاتل وقوتل، وعودي واضطهد، كان من أشد الناس شوقاً إلى الدماء وظمأ إلى الانتقام. فكيف كان خلق رسول الله في حروبه؟ كيف طبق صاحب الحضارة مبادئها التي أعلنها للناس؟..في معركة أُحد قُتل أسد الله حمزة، عم النبي وأشهر أبطال العرب، قتله رجل يقال له وحشي، بتحريض من هند زوج أبي سفيان. ولما خر البطل، أخذت هند تفتش عن قلب حمزة حتى احتزته، ثم مضغته مبالغة في التشفي والانتقام! ثم أسلمت هند وأسلم وحشي. فماذا كان من رسول الله؟ لم يزد على أن استغفر لهند، وقبل إسلام وحشي وقال له: إن استطعت أن تعيش بعيداً عنا فافعل. هذا كل ما كان من رسول الله مع قاتل عمه حمزة ومع ماضغة قلبه!ورأى في بعض حروبه امرأة من الأعداء مقتولة، فغضب وأنكر وقال: ألم أنهكم عن قتل النساء؟ ما كانت هذه لتقاتل. هذا هو رسول الله المحارب يطبق مبادئه الإنسانية وهو يخوض الغمار ويقود الكتائب.ولما فتح مكة ودخلها الرسول ظافراً على رأس عشرة آلاف من أبطاله وجنوده، واستسلمت قريش، ووقفت تحت قدميه على باب الكعبة، تنتظر حكم الرسول عليها بعد أن قاومته إحدى وعشرين سنة.. ما زاد صلى الله عليه وسلم على أن قال: يا معشر قريش: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟قالوا خيراً: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اليوم أقول لكم ما قال أخي يوسف من قبل: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. إذهبوا فأنتم الطلقاء.. إنه أيها الناس محمد الرسول معلم الإنسانية الخير، لا القائد السفاح الذي يسعى لمجده وسلطانه فتسكره نشوة النصر.وسيرة أصحابه وخلفائه من بعده في حروبهم وفتوحاتهم كانت قبساً من هذا النور، وسيراً في هذا الطريق، وتنفيذاً لتلك المبادئ، لم يفقدوا أعصابهم في أشد الأوقات حرجاً، ولم ينسوا مبادئهم في أعظم الفتوحات انتصاراً.ثار بعض سكان لبنان على عاملها علي بن عبد الله بن عباس، فحاربهم وانتصر عليهم، ورأى من الحكمة أن يفرقهم ويجلي فريقاً منهم عن ديارهم إلى أماكن أخرى، وهذا أقل ما يمكن أن يفعله اليوم حاكم في أرقى الأمم، فما كان من الإمام الأوزاعي، إمام الشام ومجتهدها وعالمها، إلا أن كتب إلى والي لبنان رسالة ينكر عليه ما فعل، من إجلاء بعض اللبنانيين عن قراهم، ومعاقبة من لم يشترك في الثورة كمن اشترك فيها. فما كان من والي لبنان إلا أن ردهم إلى قراهم معززين مكرمين!ولما ولي الخلافة عمر بن عبد العزيز، وفد إليه قوم من أهل سمرقند، فرفعوا إليه أن قتيبة قائد الجيش الإسلامي فيها دخل مدينتهم وأسكنها المسلمين غدراً بغير حق. فكتب عمر إلى عامله هناك أن ينصب لهم قاضياً ينظر فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج المسلمين من سمرقند أخرجوا. فنصب لهم الوالي (جميع بن حاضر الباجي) قاضياً ينظر في شكواهم، فحكم القاضي وهو مسلم، بإخراج المسلمين! على أن ينذرهم قائد الجيش الإسلامي بعد ذلك، وينابذهم وفقاً لمبادئ الحرب الإسلامية، حتى يكون أهل سمرقند على استعداد لقتال المسلمين فلا يؤخذوا بغتة. فلما رأى ذلك أهل سمرقند، رأوا ما لا مثيل له في التاريخ من عدالة تنفذها الدولة على جيشها وقائدها! قالوا: هذه أمة لا تحارب، وإنما حكمها رحمة ونعمة. فرضوا ببقاء الجيش الإسلامي، وأقروا أن يقيم المسلمون بين أظهرهم.ولما فتحت جيوشنا الظافرة دمشق وحمص وبقية المدن السورية، وأخذوا من أهلها مبالغ من المال صلحاً لقاء حمايتهم والدفاع عنهم، رأى قادتنا بعد أن جمع هرقل لهم الجموع لينازلهم في معركة فاصلة، أن يخلوا المدن المفتوحة ويتجمعوا في مكان واحد ينازلون به الروم مجتمعين. وخرج جيشنا من حمص ودمشق والمدن الأخرى، وجمع خالد أهل حمص وأبو عبيدة أهل دمشق، وغيرهما من القادة أهل المدن الأخرى وقالوا لهم: إنا كنا قد أخذنا منكم أموالاً على أن نحميكم وندافع عنكم، ونحن الآن خارجون عنكم لا نملك حمايتكم، فهذه أموالكم نردها إليكم! فقال أهل المدن: ردكم الله ونصركم، والله لحكمكم وعدلكم أحب إلينا من جور الروم وظلمهم. والله لو كانوا مكانكم لما دفعوا إلينا شيئاً أخذوه، بل كانوا يأخذون معهم كل شيء يستطيعون حمله!وفي حروب التتار في بلاد الشام، وقع بأيديهم كثير من أسرى المسلمين والنصارى واليهود، ثم تدخل شيخ الإسلام ابن تيمية مع أمير التتار في أمر الأسرى وفكّ أسرهم، فأجابه الأمير إلى فك أسرى المسلمين فقط دون النصارى واليهود، فأبى شيخ الإسلام ذلك وقال له: لابد من افتكاك جميع من معك من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيراً لا من أهل الملة ولا من أهل الذمة.حين وصل الصليبيون في الحملة الثانية إلى معرة النعمان حاصروها حتى اضطر أهلها للاستسلام، بعد أن أخذوا من رؤساء الحملة عهوداً مؤكدة بالمحافظة على النفوس والأموال والأعراض. فما كادوا يدخلونها حتى ارتكبوا من الفظائع ما تشيب له الولدان. وقدّر بعض المؤرخين الإفرنج الذين كانوا في هذه الحملة عدد الذين قتلوهم بين رجال ونساء وأطفال بمائة ألف! ثم تابعوا سيرهم إلى بيت المقدس، وشددوا الحصار على أهلها، ورأى أهلها أنهم مغلوبون لا محالة فطلبوا من قائد الحملة (طنكرد) الأمان على أنفسهم وأموالهم. فأعطاهم رايته يرفعونها على المسجد الأقصى ويلجأون إليه آمنين على كل شيء. ودخلوا المدينة بعد ذلك، فيا لهول المجزرة، ويا لقسوة الإجرام!.. لجأ سكان القدس إلى الأقصى الذي رفعوا فوقه راية الأمان، حتى إذا امتلأ بمن فيه من شيوخ وأطفال ونساء ذُبحوا ذبح النعاج، فسالت الدماء في المعبد حتى ارتفعت إلى ركبة الفارس. وطهرت المدينة بذبح كل من فيها تماماً، حتى كانت شوارعها تعج بالجماجم المحطمة والأذرع والأرجل المقطعة، والأجسام المشوهة. ويذكر مؤرخونا أن عدد الذين ذبحوا في داخل المسجد الأقصى فقط سبعين ألفاً! منهم جماعة كبيرة من الأئمة والعباد والزهاد فضلاً عن النساء والأطفال. ولا ينكر مؤرخو الفرنج هذه الفظائع، وكثير منهم يتحدثون عنها فخورين!وبعد 90 سنة من هذه المجزرة فتح صلاح الدين بيت المقدس فماذا فعل؟ لقد كان فيها ما يزيد على مائة ألف غربي بذل لهم الأمان على أنفسهم وأموالهم، وسمح لهم بالخروج لقاء مبلغ قليل يدفعه المقتدرون منهم، وأعطاهم مهلة للخروج أربعين يوماً، فجلى منها أربعة وثمانون ألفاً لحقوا بإخوانهم في عكا وغيرها، ثم أطلق كثيراً من الفقراء من غير الفدية. وأدى أخوه الملك العادل الفدية عن ألفي رجل منهم. وعامل النساء معاملة لا تصدر عن أرقى ملك منتصر في العصر الحديث. ولما أراد البطريرك الإفرنجي أن يخرج، سمح له بالخروج ومعه من أموال البِيَع والصخرة والأقصى والقيامة ما لا يعلمه إلا الله.واقترح بعض حاشية صلاح الدين عليه أن يأخذ ذلك المال العظيم، فأجابه السلطان: (لا أغدر به) ولم يأخذ منه إلا ما كان يأخذه من كل فرد. ومما يزيد في روعة هذا العمل الإنساني الذي عمله صلاح الدين في فتح بيت المقدس، أنه أرسل مع جماهير الغربيين الذين نزحوا من القدس لينضموا إلى إخوانهم من يحميهم ويوصلهم إلى أماكن الصليبيين في صور وصيدا بأمان، مع أنه لا يزال في حرب معهم!إن قصة صلاح الدين مع الغربيين في الحروب الصليبية تشبه الأساطير. ولولا أن الغربيين أنفسهم لا يكاد ينتهي عجبهم من نبل هذا البطل الخالد وسمو أخلاقه، لكان مجال لاتهام مؤرخينا بالمبالغة. والغربيون أنفسهم هم الذين يذكرون عن صلاح الدين أنه بلغه مرض ريتشارد قلب الأسد – أكبر قواد الحملات الصليبية وأشجعهم – فأرسل إليه صلاح الدين طبيبه الخاص يحمل إليه العلاج والفواكه التي لا يمكن أن يحصل عليها ذلك القائد الصليبي. هذا والحرب بينهما مستعرة، وجيشاهما في صراع! وهم الذين يذكرون أن امرأة غربية ألقت بنفسها على خيمة السلطان صلاح الدين تبكي وتولو وتشكو إليه أن اثنين من جنود جيشه خطفا لها ولدها، فبكى صلاح الدين وأرسل من يفتش عن الولد حتى وجدوه وسلّم إليها. وأرسلت بحراسة الجيش إلى معسكرها آمنة مطمئنة، فماذا يقول قائل بعد هذا؟..ولما فتح السلطان محمد الثاني القسطنطينية، دخل إلى كنيسة آيا صوفيا، وكان قد لجأ إليها رجال الكنيسة، فأحسن استقبالهم وأكد حمايته لهم، وطلب من المسيحيين الفزعين الموجودين فيها أن يذهبوا إلى بيوتهم آمنين. ثم نظم شؤون المسيحيين، فترك لهم حق اتباع كنائسهم الخاصة، وقوانينهم المالية، وتقاليدهم المتعلقة بأحوالهم الشخصية. وترك للقساوسة انتخاب بطريرك لهم، فانتخبوا (جناديوس) واحتفل السلطان بانتخابه بنفس الأبهة التي كانت متبعة في عهد البيزنطيين، وقال له: لتكن بطريركاً على صداقتي في كل وقت وظرف، ولتتمتع بكل الحقوق والامتيازات التي كانت لمن سبقك. ثم أهداه فرساً جميلاً، وجعل له حرساً خاصاً من الإنكشارية (وهم حرس السلطان الخاص) وصحبه (باشاوات) الدولة إلى المكان الذي أعد له، ثم أعلن السلطان الفاتح اعترافه بقوانين الكنيسة الأرثوذكسية، ووضعها تحت رعايته، وجمعت واشتريت كل آثار القديسيين ومخلفاتهم التي نهبت يوم الفتح، وسلمت إلى الكنائس والأديرة!ولا أريد أن أفيض في المقارنة بين أخلاق الفاتحين المسلمين في الأندلس، وحسن معاملتهم للمغلوبين، ورحمتهم بهم ورعايتهم لشعورهم، وبين ما فعله الإسبان حين استولوا على غرناطة (آخر مملكة للإسلام في الأندلس)، بعد أن أعطوا المسلمين، بضعاً وستين عهداً باحترام ديانتهم ومساجدهم وأموالهم وأغراضهم، ولكنهم لم يرعوا عهداً، ولم يفوا بذمة، ولم يعفوا عن سفك الدماء وإزهاق الأرواح وسلب الثروات، فلم يكد يمضي على سقوط غرناطة اثنان وثلاثون سنة حتى أصدر البابا أمره عام 1524 بتحويل جميع مساجد أسباني إلى كنائس! ولم تمر بعد ذلك أربع سنوات أخرى حتى لم يبق في إسبانيا كلها مسلم واحد! هذا هو وفاؤهم بالعهود.. وذلك هو وفاؤنا.وبعد.. فلماذا نذهب بعيداً وهذه أخلاق الغربيين المستعمرين في الحربين العالميتين وآثار قسوتهم فيها، وها هي أخلاقهم في الشرق العربي والإسلامي، ناطقة على مدى القسوة التي تتصف بها ضمائرهم في حروبهم وحكمهم، وعلى مدى النفاق الذي بلغوه حين يعلنون في المحافل الدولية إنسانيتهم ورحمتهم، وهم في حروبهم ومستعمراتهم والبلدان الخاضعة لحكمهم يعلنون وحشيتهم وضراوتهم. ولئن كان بعض الناس يعتذر عن فظائع الغربيين في القرون الوسطى بأنهم قوم لم تهذبهم المدنية بعد، فما هو عذرهم الآن وهم أرباب الحضارة وأساتذة الدنيا في العلوم والفنون والمخترعات؟ إن المسألة في رأينا مسألة طبع أصيل يغلب كل تطبع وتصنع. لعمري ما نحن وهم إلا كما قال الشاعر:ملكنـا فكان العفو منا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطحوما عجب هذا التفاوت بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح---------------------(1) المائدة- 27. (2) الحجرات- 13. (3) البقرة- 208. (4) الأنفال- 60. (5) الأنفال- 61. (6) البقرة- 190. (7) البقرة- 193. (8) الحج- 40. (9) النساء- 75. (10) البقرة- 194. (11) من وصية أبي بكر لجيش أسامة. (12) النحل- 91. (13) الحج- 41.

ليست هناك تعليقات: