السبت، ١٢ يناير ٢٠٠٨

المكتبات في حضارتنا .. هل رأيتم مثل هذا

المكتبات الخاصة والعامة
إذا كنا نتحدث عن حضارتنا، فلابد من الحديث عن المكتبات. فقد كانت مدارس للتعليم، ومؤسسات ينفق عليها الأمراء والأثرياء والعلماء، لينتشر العلم بين الناس، وخصوصاً في ذلك الزمن الذي لم تكن فيها الطباعة موجودة، وكانت الكتب تنسخ على أيدي نساخين متخصصين لهذا العمل. فكان يبلغ بذلك ثمن الكتاب حدّاً قد يتعذر على طالب العلم أو العالم الفقير شراؤه، فكيف إذا أراد أن تكون له مجموعة من الكتب في الفن أو العلم الذي يتخصص فيه؟ ومن هنا كان قيام المكتبات في مجتمعنا الماضي منبعثاً عن عاطفة إنسانية، وعن نزعة علمية في وقت واحد.
لعل الأدب العربي هو أغنى الآداب العالمية القديمة بالتغني بالكتاب والولع به والرغبة فيه والتحدث عنه، حتى لكأنه حبيب نأى مزاره وشطّت داره، فالقلوب إليه منصرفة وبه مولعة، قال أحمد بن إسماعيل: (الكتاب هو المسامر الذي يبتدئك في حال شغلك، ولا يدعوك في وقت نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له، والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملُّك، والناصح الذي لا يستزلُّك). ولقد كانوا يفضلون مطالعة الكتب على غشيان الناس في مجالسهم، ويرون الأنس بها أقرب إلى القلب من الأنس بالخليفة أو ذي سلطان.
بهذه الروح العلمية شغف علماؤنا وأغنياؤنا وأمراؤنا بالكتب وجمعها، حتى أنهم كانوا يرون نكبتهم في أموالهم وبيوتهم أيسر عليهم من نكبتهم في كتبهم.
هجم الجنود مرة على دار ابن العميد بعد أن انتصروا على غلمانه وحراسه، ففر ابن العميد إلى دار الإمارة، فوجد أن خزائنه جميعها قد نهبت، حتى أنه لم يجد ما يجلس عليه، ولا وجد كُوزاً يشرب فيه الماء، واشتغل قلبه بدفاتره وكتبه، ولم يكن شيء أعز عليه منها، وكانت كثيرة تشمل جميع العلوم، وكل نوع من أنواع الحكم والأدب، تحمل على مائة بعير فأكثر، فلما رأى ابن العميد خازن مكتبته سأله عنها فأجابه: هي بحالها لم تمسها يد، فسرّي عن ابن العميد، وقال لخازنه: أشهد أنك ميمون النقيبة، أما سائر الخزائن فيوجد عنها عوض، وهذه الخزانة – أي مكتبته – هي التي لا عوض لها.
وبهذه الروح العلمية كانوا يتنافسون في شراء المؤلفات العلمية من مؤلفيها عقب الانتهاء من تأليفها. سمع الحكم أمير الأندلس بكتاب الأغاني المشهور الآن في عالم الأدب، فأرسل إلى مؤلفه أبي الفرج الأصفهاني ألف دينار من الذهب ثمن نسخة منه، فأرسل إليه أبو الفرج بنسخة من كتابه، فقُرئ كتابه في الأندلس قبل أن يُقرأ في العراق موطن المؤلف.
وقد نشأ عن هذه الروح العلمية انتشار المكتبات في شتى أنحاء العالم الإسلامي، فقلّما كانت مدرسة ليس بجانبها مكتبة، وقلّ أن تجد قرية صغيرة ليس فيها مكتبة، أما العواصم والمدن فقد كانت تغص بدور الكتب بشكل لا مثيل له في تاريخ العصور الوسطى.
كانت المكتبات نوعين رئيسيين: عامة وخاصة.
أما العامة فقد كان ينشئها الخلفاء والأمراء والعلماء والأغنياء، كانت تشيّد لها أبنية خاصة، وأحياناً كانت تلحق بالمساجد والمدارس الكبرى.
أما الأبنية الخاصة، فقد كانت تشتمل على حجرات متعددة تربط بينها أروقة فسيحة، وكانت الكتب توضع على رفوف مثبتة بالجدران تخصص كل غرفة لفرع من فروع العلم، فلكتب الفقه غرفة، ولكتب الطب غرفة، ولكتب الأدب غرفة، وهكذا. كان فيها أروقة خاصة للمطالعين، وغرف خاصة للنساخ الذين ينسخون الكتب، وفي بعضها غرف للموسيقى، يلجأ إليها المطالعون للترفيه وتجديد النشاط – وهذا مما تفرّدت به حضارتنا – وفيها غرف لحلقات الدراسة والنقاش العلمي بين رواد تلك المكتبات. وكانت جميعها تؤثث تأثيثاً فخماً ومريحاً، وكان في بعضها غرف لطعام روادها، ومنامة للغرباء منهم، كالذي قيل في مكتبة علي بن يحيى بن المنجم، فقد كان له قصر عظيم في قرية قريبة من بغداد (هي كركر من نواحي القفص) وفيه مكتبة عظيمة كان يسميها خزانة الحكمة، يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والأرزاق مغدقة عليهم، وكل ذلك من مال علي بن يحيى نفسه. بل هنالك ما هو أطرف من ذلك مما لا نعلم له مثيلاً اليوم في أرقى عواصم الحضارة الغربية، فقد كان في الموصل دار أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، وسماها دار العلم، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب علم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معسراً أعطاه ورقاً وورقاً، (أي كتباً ونقوداً)، وكانت تفتح في كل يوم.. فهل سمعتم حتى الآن بمكتبة في لندن أو واشنطن، أو عاصمة من عواصم العالم الكبرى اليوم تمنح الأدب والأموال لطلبة العلم؟..
وكان للمكتبات العامة موظفون يرئسهم خازن المكتبة، وهو دائماً من أشهر علماء عصره، ومناولون يناولون الكتب للمطالعين، ومترجمون ينقلون الكتب من غير العربية إلى العربية، ونساخ يكتبون الكتب بخطوطهم الجميلة، ومجلدون يجلدون الكتب لتحفظ من التمزق والضياع، هذا عدا عن الخدم وغيرهم ممن تقتضيهم حاجة المكتبات.
وكان لكل مكتبة صغيرة أو كبيرة فهارس يُرجع إليها لسهولة استعمال الكتب، وهي مبوبة بحسب أبواب العلم، وبجانب هذا كانت توضع قائمة على كل دولاب تحتوي أسماء الكتب الموجودة في الدولاب. وكان من المعروف في نظام المكتبات أن الاستعارة الخارجية مسموحة في أغلبها لقاء ضمان عن الكتاب من عامة الناس، أما العلماء وذوو الفضل فلم يؤخذ منهم ضمان.
أما الموارد المالية التي كانت تقوم بنفقات المكتبات، فمنها ما كان من الأوقاف التي تنشأ من أجلها خاصة، وهذه حال أكثر المكتبات العامة ومنها ما كان من عطايا الأمراء والأغنياء والعلماء الذين يؤسسون تلك المكتبات، فقد قالوا إنه كان عطاء محمد بن عبد الملك الزيات للنقلة والنُّساخ في مكتبته ألفي دينار كل شهر. وكان المأمون يعطي حنين بن اسحق من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلاً بمثل.
والآن لنذكر بعض الأمثلة عن المكتبات العامة والخاصة التي كان لها ذكر في التاريخ.
من أشهر المكتبات: مكتبة الخلفاء الفاطميين في القاهرة. كانت مكتبة عجيبة بما حوت من نفائس المصاحف والكتب، بلغ مجموع كتبها كما يروي كثير من المؤرخين مليوني كتاب، وإن كان المقريزي يميل إلى أنها مليون وستمائة ألف كتاب.
ومنها مكتبة دار الحكمة بالقاهرة، وأنشأها الحاكم بأمر الله، وافتتحت في 10 من جمادى الآخرة 395هـ، وقد جمع فيها من الكتب ما لم يجتمع لأحد قط من الملوك. حتى كانت تضم أربعين خزانة، احتوت إحدى خزائنها على 18000 كتاب.
ومنها بيت الحكمة في بغداد، أنشأها هارون الرشيد، وبلغت ذروة مجدها في عصر المأمون. كانت أشبه بجامعة فيها كتب يجتمع فيها رجال يتفاوضون ويطالعون وينسخون، وكان فيها نساخ ومترجمون يترجمون ما كان يحصل عليه الرشيد والمأمون في فتوحاتهم بأنقرة وعمورية وقبرص.
ومنها مكتبة الحكم بالأندلس. كانت غاية في العظمة والاتساع، حتى قيل إنها بلغت أربعمائة ألف مجلد، وكانت لها فهارس غاية في الدقة والنظام، حتى أن الفهرست الخاص بدواوين الشعر الموجودة في تلك المكتبة بلغت أربعة وأربعين جزءاً .
ومنها مكتبة بني عمار في طرابلس. كانت آية من الآيات في العظمة والضخامة. كان فيها مائة وثمانون ناسخاً ينسخون فيها الكتب، ويتبادلون العمل ليلاً ونهاراً بحيث لا ينقطع النسخ.
ومن المكتبات الخاصة ما يتحدث التاريخ عنها بإعجاب، وقد كانت في كل بلد في شرق العالم الإسلامي وغربه، وقلّ أن تجد عالماً إلا وله مكتبة كانت تحوي آلافاً من الكتب. فمنها مكتبة الفتح بن خاقان (المقتول في عام 247هـ) وكانت مكتبته واسعة، عَهِد بجمعها إلى رجل من خيرة رجال عصره علماً وأدباً، وهو علي بن يحيى المنجم، حتى جمع له فيها من كتب الحكمة ما لم يجتمع في خزانة حكمة قط.
ومنها مكتبة ابن الخشاب (المتوفى عام 567هـ)، كان من أعلم الناس بالنحو وكانت له معرفة في التفسير والحديث والمنطق والفلسفة. وكان مولعاً بالكتب.
ومنها مكتبة جمال الدين القفطي (المتوفى عام 646هـ)، جمع من الكتب ما لا يوصف، وقُصد بها من الآفاق طمعاً في سخائه وكرمه، وكان لا يحب من الدنيا سوى الكتب، فأوقف عليها نفسه، ورفض أن يتزوج حتى لا يشغله الأهل والأولاد عنها، وأوصى بمكتبته للناصر، وكانت تساوي خمسين ألف دينار.
ومنها مكتبة بني جرادة العلماء في حلب، كتب أحدهم – أبو الحسن ابن أبي جرادة (548هـ) بخطه ثلاث خزائن من الكتب النفيسة، وخزانة لولده أبي البركات، وخزانة لابنه عبد الله.
ومنها مكتبة الموفق بن المطران الدمشقي (587هـ)، كانت له همة عالية في تحصيل الكتب، حتى أنه لما مات كان في خزانته من الكتب الطبية وغيرها، عشرة آلاف مجلد، وكان في خدمته ثلاثة نساخ يكتبون له أبداً، ويعطيهم رواتبهم وأرزاقهم.
وبعد، فلئن كانت النشوة تملأ نفوسنا حين نتحدث عن انتشار المكتبات في العالم الإسلامي في عصور حضارته الزاهرة فإن الأسى ليملأ قلوبنا حين نتذكر مصائر هذه المكتبات، وما تعرضت له من بوار وحرائق لا يمكن أن تقدر خسارة العلم فيها أبداً.
لقد أصيبت مكتباتنا بما قضى على ملايين الكتب منها بحيث فقدها العالم إلى الأبد، وهي من أثمن ما خلفه الفكر الإسلامي في التاريخ.
فنكبة التتار حين افتتحوا بغداد، أصابت هذه المكتبات قبل أن تصيب أي شيء غيرها، وكلنا يعلم أن التتار الهمج قذفوا بما وجدوا في دور الكتب العامة في نهر دجلة حتى فاض النهر بالكتب الملقاة فيه، فكان يعبر الفارس عليها من ضفة إلى ضفة، وظل ماء النهر أسود داكناً أشهراً طويلة من تغيره بمداد الكتب التي أغرقت فيه..
ونكبة الغزو الصليبي أفقدتنا أعز المكتبات التي كانت في طرابلس والمعرة والقدس وغزة وعسقلان وغيرها من المدن التي خربها الصليبيون، وحسبنا أن نعلم أن بعض المؤرخين قدّر ما أتلفه الصليبيون في طرابلس وحدها بثلاثة ملايين مجلد.
ونكبة استيلاء الأسبان على الأندلس أفقدتنا تلك المكتبات العظيمة التي يتحدث عنها التاريخ بذهول، فقد احترقت كلها بفعل المتدينين المتعصبين، حتى أنه قد أحرق في يوم واحد في ميدان غرناطة ما قدّره المؤرخون بمليون كتاب.
هذا حديث مكتباتنا في عصور حضارتنا، وهذه نهاية ما انتهت إليه، ولئن كان الاعتراف للأعداء بالجميل صعباً على النفس، فإن من الواجب أن نعترف أن دور الكتب في أوروبا حفظت لنا كثيراً من البقية الباقية من هذا التراث، وأن فيها من ذخائر المؤلفات العربية ما لا يوجد في العالم الإسلامي كله الآن.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

كلام رائع ..حكى احد الاجداد انه كانت له حفيدة قدمت من امريكاو لما خرج الجد صباحا وعد احفاده ان يعود اليهم بهدية عظيمة فرجع اليهم بقطع الحلوى و الجاتوه ففرح الاطفال جميعا ما عدا هذه الحفيدة حزنت فلما سالها عن سبب حزنها قالت لما تحدثت عن هدية عظيمة ظننت انك سوف تحضر لى كتابا جديدا ...هذه ثقافة شعوب تغرس فيهم (او يربون عليها)
(culture)
ibraheem