السبت، ١٩ يناير ٢٠٠٨

المجالس والندوات العلمية - أشياء افتقدناها فمتى تعود ؟

وهذا لون آخر من ألوان حضارتنا الزاهية، كان له أثر كبير في نشر الثقافة وذيوع العلم، ورفع المستوى الاجتماعي والذوق العلمي في الأوساط الثقافية هو تلك المجالس والندوات العلمية التي تعددت في عواصمنا ومدننا الكبرى مع ما كان للمدارس والمعاهد والمكتبات من عظم وكثرة. هذه المجالس في تعددها وتنوع أبحاثها كانت مظهراً رائعاً من مظاهر اليقظة الفكرية في أمتنا إبّان مجدها وقوتها، وإنك لا تشك حين ترى مختلف طبقات الشعب من خلفاء وأمراء وعلماء وأدباء وشعراء.. يجعلون من أبحاثهم في مجالسهم الخاصة والعامة مباريات علمية وأدبية وفلسفية، إن هذه الأمة بلغت من الشغف بالعلم والظمأ لارتياد مناهله، حداً يشعرك بعظمتها ورقيها.
كانت هذه المجالس متعددة متنوعة.. فمجالس في رحاب الخلفاء يتصدرها الخليفة بنفسه، وينتظم في عقدها أشهر العلماء والأدباء والفقهاء في عاصمته، ولقد كانت مجالس الخلفاء تتطور بتطور الحضارة الإسلامية ونمو ثقافتها. فهي في عهد الخلفاء الراشدين تتحدث عن شؤون الدولة وأعمال الولاة، بمثابة مجلس نيابي يتحدث فيه عظماء القوم عما يهمّ الدولة من شؤون وقضايا متنوعة.. احتاج عمر بن الخطاب يوماً إلى والٍ كفءٍ يُوليه عملاً هاماً من أعمال الدولة، فقال لجلسائه: دلوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمني، فقالوا: فلان، قال: لا حاجة لنا فيه، قالوا فمن تريد؟ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم، قالوا: ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارثي، قال صدقتم، فولاه. ثم أصبحت مجالس الخلفاء في عهد الأمويين مجالس للأدب والحكمة والشعر.. حضر عبد الله بن هاشم مجلس معاوية ذات يوم، فقال معاوية: من يخبرني عن الجود والنجدة والمروءة؟ فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين! أما الجود فابتذال المال والعطية قبل السؤال، وأما النجدة فالجراءة على الإقدام والصبر عند ازورار الإقدام، وأما المروءة فالصلاح في الدين والإصلاح للحال والمحاماة عن الجار.
وتطورت بعد ذلك مجالس الخلفاء في العصر العباسي، فكانت من أروع المجالس في حسن أثاثها، وسعة رحابها، وكثرة علمائها وأدبائها، وتنوع أبحاثها وفنونها، هذا عدا عن مجالس الطرب التي كانت الصبغة الأدبية غالبة عليها بما يثار فيها من حديث الشعر والشعراء وتفسير الكلمات التي يتغنى بها المغنون، ومن أشهر خلفاء بني العباس في فخامة مجالسهم وروعتها الرشيد والمأمون، أما الرشيد فقد كان يحتشد في مجالسه أعلام العلماء من كل فن وعلم، وحسبك أن كان من رواد مجالسه من الشعراء: أبو نواس، وأبو العتاهية، ودعبل، ومسلم بن الوليد، والعباس بن الأحنف، ومن الفقهاء: أبو يوسف والشافعي ومحمد بن الحسن، ومن اللغويين، أبو عبيدة والأصمعي والكسائي، ومن المؤرخين: الواقدي المؤرخ الشهير. ومن المغنين: إبراهيم الموصلي وابنه إسحق.
ومن المناظرات التي وقعت في مجلسه، أن محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة وصف الكسائي بأنه لا يُحسن الفقه، وإنما يحسن شيئاً من كلام العرب، فقال الكسائي: من تبحر في علم واحد اهتدى به إلى سائر العلوم، فقال له محمد يختبره: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، هل يسجد مرة أخرى؟ قال الكسائي: لا، قال محمد: لماذا؟ فأجاب الكسائي: لأن النحاة تقول: المصغّر لا يصغر.
وأما المأمون فكان مجالسه من أروع المجالس العلمية في تاريخ الحضارة الإسلامية، إذ كان هو نفسه من أساطين العلماء، وكان بلاطه يموج بجمهرة عظيمة من رجال العلم والأدب والشعراء والأطباء والفلاسفة الذين استدعاهم المأمون من جهات متعددة من أنحاء مملكته وشملهم جميعاً بعنايته مهما اختلفت مشاربهم أو جنسياتهم، وكثيراً ما كان يبدأ المناقشات ويثير العلماء للبحث.
هذا ولا يفوتنا أن نذكر دور الوراقين، أي دكاكين بيع الكتب، فقد كانت أيضاً مجالس للعلماء يتساقطون فيها أطيب الحديث عن العلم، كل في العلم الذي تخصص فيه، وكان بائعو الكتب في الكثير الغالب أدباء ذوي ثقافة، يستفيدون من حرفتهم إشباع نهمهم العلمي، وحسبك أن تعلم أن ابن النديم صاحب (الفهرست) وياقوت صاحب (معجم الأدباء) و(معجم البلدان) كانا وراقين – أي بائعي كتب – وكثيراً ما كان أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، وأبو نصر الزجاج الأديب اللغوي المشهور يلتقيان في دكاكين الوراقين، يتحدثون عن الشعر والأدب مع الشعراء الذين كانوا يفدون إلى تلك الدكاكين.
وبعد، فالأمة التي تستحق الحياة تجد غذاءها في العلم قبل كل شيء. وأمتنا يوم كانت تبعث الحياة في الأمم والشعوب كانت تسلك كل سبيل للتزود من العلم ونشره وإذاعته، بل كان مختلف أبنائها من الخليفة إلى العالم والتاجر يتبارون في الاستكثار من أدوات العلم وكتبه وبناء مدارسه، وكانت كما رأيت لا يتحدث فيها إلا بما يزيد في العلم ويفتح الذهن ويصقل العقل. وهم حتى في مجالس سمرهم ولهوهم كانوا علماء وأدباء، لا يفوتهم تحقيق مسألة، أو كشف غامض، أو تصحيح خطأ.
ولم نتحدث هنا عن مجالس الفقهاء والمحدثين والوعاظ، فذلك مما شاع وذاع في كل بلدة وقرية، وقصارى القول أن حضارتنا في عصور ازدهارها ملأت العالم الإسلامي بنور العلم يغشي بيوتها ومساجدها ومدارسها وأنديتها ومجالسها ودكاكينها، حتى حق لعالم كبير كغوستاف لوبون أن يقول: إن حب العرب للعلم كان عظيماً، وأنهم بلغوا درجة رفيعة من الثقافة بعد أن أتموا فتوحهم بزمن قصير، حتى استطاعوا أن يبدعوا حضارة أينعت فيها الآداب والعلوم والفنون وبلغت الذروة!!.
وهنا لم نتطرق للحديث عن العلماء نفسهم فالأمة كانت تقود العالم في كل المجالات من الطب والهندسة والفلك والرياضيات ناهيك عن الفلسفة والأدب والشعر. وما رأينا في شهر رمضان الماضي في الجزيرة الوثائقية من أمثلة لعلماء الأمة أمر رائع جدا ولكن السؤال الذي يدور بخاطري لماذا تحجب عن الأمة سيرة هؤلاء الأفذاذ .

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

السلام عليكم ورمة الله وبركاته،

سوف يعود ما تصبو إليه عندما يعود المسلمون ليكونوا مسلمين حقا كما كان أجدادنا. إن أمة ليس لها هم في الحياة سوى سد الضرورات وإشباع الشهوات لجديرة بان تعيش مثل البهائم وربما أقل.

أبو عبد الرحمن المصري