الثلاثاء، ٢٩ يناير ٢٠٠٨

وقفات مع اللحظات الفاصلة في تاريخنا - الثانية وهكذا انهارت الأمة

اللحظة الثانية : اللحظة التاريخية التي حدث فيها الانهيار التام لهذا الإنسان المسلم ولهذه الدول المسلمة ولهذه المنظومة التي بناها هذا الإنسان الذي صنعه الإسلام. فلقد قامت مجموعة من الدول في الغرب ببناء حضارة جديدة بذلوا فيها الكثير من الوقت والجهد والمال. وقاموا بعمل تغييرات كثيرة في مجتمعاتهم. وقاموا ببناء الإنسان الغربي ووضعوا مناهج كثيرة في تطوير الفكر وتطوير الذات. وبدءوا من حيث انتهى المسلمون. فقاموا بعمل بناءا حضاريا على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. وكان حجر الزاوية في بنائهم هو العلم. وبعد أن استقرت لهم الأمور استداروا على دولنا ليحصلوا منها على ما يقوي نموهم الاقتصادي والعسكري. فأخذوا من دولنا المواد الخام وأخذوا النفط ثم صدروا لنا كل منتجاتهم. وكذلك فعلوا كل ما في وسعهم حتى يدمروا ما تبقى لنا من وحدة اجتماعية وأخلاق حميدة كنا نحتمي بها ساعة العسرة. فقاموا باستعمار أرضنا فترة من الزمن قاموا خلالها بتخريب نظم التعليم وقاموا بتخريب عقول النخبة ثم وضعوا هؤلاء النخبة على رأس كل المؤسسات التعليمية والشعبية. وقاموا بزرع كيان يهودي غاصب في أرض فلسطين. والآن تتحد أوربا كاملة وتكون منظمة واحدة قوية ومنظمة. ليشد القوي منهم بيد الضعيف فيصيروا جميعا أقوياء. فمثلا كان هناك صناعات مهمة ومشهورة عند العرب مثل صناعة النسيج التي كانت تعتمد على ماكينات خاصة اخترعها العرب فعند بدأ الثورة الصناعية في أوربا طور الأوربيون هذه الماكينات وأصبحت تنتج أضعاف الماكينات العربية وأصبح المنتج الأوربي أرخص والمستثمر يربح أكثر فتوقفت الماكينات العربية ولم تجد من يطورها. وكذلك الجامعات العربية وأماكن الأبحاث العلمية في بغداد وغيرها توقفت. وجامعات الأندلس التي كانت قبلة العالم توقفت عن العمل بعد انهيار الأندلس. أي أنه هناك لحظة قيام نهضة في أوربا تبعها انهيار تام لحضارتنا فمن الضروري دراسة وتحليل هذا اللحظة التاريخية دراسة كاملة و مستفيضة واستخراج الأسباب والنتائج.
اللحظة الثالثة : اللحظة التاريخية الحالية للعالم العربي والإسلامي. فوضع العالم العربي والإسلامي لا يخفى على أحد من تفكك وتشرذم وبعد عن الطريق الصحيح لصناعة مستقبل مشرق أو حاضر مستقل. ودراسة وضع الأمة الآن وما وصلت إليه من ضعف شديد وبعد كبير عن المنهج الصحيح للإسلام. فلا توجد وحدة كلمة ولا وحدة مصير ولا وحدة ثقافية ولا وحدة اجتماعية ولا أي نوع من أنواع الوحدة. ولكن للأسف يوجد كثير من الصراعات بين أعضاء هذه الأمة وهناك جروح نازفة في فلسطين والعراق والصومال وأفغانستان وكشمير وكثير من الأماكن الأخرى. الآن هناك دماء كثيرة تسيل من أبناء هذه الأمة. وعلى مستوى الدول القطرية فالمشاكل والأزمات كثيرة فأزمة الحريات والديمقراطية وأزمة الصراع بين أنظمة والإصلاحيين ، والأزمات الاقتصادية الطاحنة والأزمات الاجتماعية الطويلة ومنها البطالة. وهناك أزمات التربية وأزمات التعليم وفقدان الهوية والانتماء. والبعد عن المنهج العلمي والمنهج العقلي في كل حياتنا. وعدم مشاركة الشعوب في القرارات المصيرية التي تخص دولهم. واستحواذ فئة قليلة في المجتمعات على جميع مقدرات الأمة السياسية والاقتصادية. ناهيك عن التخلف العلمي الشديد والبعد الكبير عن الأسس والأخلاقيات التي وضعها إسلامنا الحنيف للحياة. وفي المقابل الهجرة الشديدة والمطردة للعقول والطاقات المنتجة ناحية الغرب.
وقفة : لابد من دراسة نماذج الدول والشعوب التي تعرضت لما نحن فيه الآن ثم قامت ونهضت وأصبحت في مصاف الدول العظمى مثل اليابان والصين وكوريا لجنوبية. وعند دراسة هذه النماذج لابد من وضع الاعتبارات الثقافية والدينية ووجود الكيان الصهيوني في قلب منطقتنا العربية موضع الاعتبار.
وبعد : لابد من سؤال هل بعد الانحدار الشديد لهذه الأمة من أمل في النهوض ؟ وقبل الإجابة لابد أن نقر سويا أنه حينما نهضت الأمة لم تنهض إلا بالإنسان وحينما انهارت الأمة انهارت بسبب أن الإنسان لم يعد هو الذي قامت عليه نهضة الأمة ولكن هذا الإنسان كان قد تغير وتغيرت صفاته وأهدافه. ولهذا إذا أردنا أن نتحدث عن عودة لهذه الأمة مرة أخرى للنهوض والوقوف بين الأمم وأن يكون لنا مشاركة في الحضارة الإنسانية العالمية فلابد لنا من صناعة الإنسان الذي يحمل النهضة ويقوم بها. هذا الإنسان هو الإنسان العدل الذي هو عكس الإنسان الكل لأننا في الأمة الإسلامية الآن ينطبق علينا وصف القرآن للإنسان الكل كما جاء في سورة النحل الآية 76 ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما توجه لا يأتي بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) .
- إذا علينا أن نعمل على صناعة هذا الإنسان الأمل ولكن كيف هذا سؤال مهم وعظيم وفرصة لعلماء التربية والاجتماع أن يبحثوا في هذا الموضوع وعلينا أيضا أن نساعدهم في هذا المجال .

الأربعاء، ٢٣ يناير ٢٠٠٨

وقفة مع اللحظات التاريخية الفاصلة في تاريخنا - اللحظة الأولى

إن الحال الذي وصلت إليه أمتنا الإسلامية والعربية في هذا الزمن حال عجيب جدا. فلم يكن يتخيل أحد أن تنحدر الأمة إلى هذا المستوى من التردي . هذه الأمة التي كان من أمثالها ( تجوع الحرة ولا تأكل بثديها ) فأصبحنا نأكل اليوم بكل شيء وتخلينا عن كل شيء. وحينما نفكر في كيفية الخروج من هذه الأزمة وكيفية النهوض مرة أخرى لابد لنا من وقفات مع لحظات تاريخية كانت فاصلة في تاريخ أمتنا. لحظات نستلهم منها العبر. ونأخذ منها الدروس. وهذه اللحظات هي :
اللحظة الأولى : اللحظة التاريخية الخاصة بنهوض العرب وتحولهم من فشلهم في قيادة أنفسهم إلى نجاحهم في قيادة العالم أجمع. وكيف حول الإسلام الإنسان العربي الذي كان بدويا تحكمه أهداف القبيلة ونظم الصحراء إلى إنسان يقابل أكبر الحضارات في وقته مقابلة الواثق من نفسه ومن منهجه ومن دينه. فيقابل الفرس فيهزمهم عسكريا وحضاريا ولا تقوم لهم قائمة أخرى حتى الآن . ويقابل الروم فيتم له مثل ما سبق وتكون هزيمة مدوية للروم . بل إنه من العجب أن يفتح بلادا لها تاريخ قديم في الحضارة الإنسانية ولها حضارة عريقة مثل مصر. يفتحها ويحكمها ويغير دينها ولغتها ونظامها الاجتماعي خلال ثلاث سنوات فقط. وتقرأ في كتب التاريخ مواقف وأحداث عجيبة عن تحول هذا الإنسان إلى إنسان آخر . تقرأ أن العرب ما كان في ماضيهم دولة ولا كان لهم في حياتهم هدف، بل كان أمرهم مضيّعا مع هوى الفرس تارة وهوى الروم أخرى، وإنهم راضون من حياتهم بانتجاع الكلأ وتلمّس المرعى والرضا بالكفاف وتوسّد الخيال الشعريّ المهدهد على الأمل والمروّض على الحبّ. ثم اقرأ هذا الكلام وتعجب. في معركة القادسية وبعد أن استقر المقام بالجيش نقرأ في تاريخ الطبري (بتصرف) أن رستم قائد جيش الفرس أرسل إلى سعد أن أرسل إلي مِن رسلك مَن نبادله الرأي، ويجمع سعد مجلس الشورى من خاصته، ويعرض عليهم أن تذهب منهم طائفة إلى رستم؛ يبسطون له دعوتهم ويحددون لهم هدفهم، ويتقدم ربعي بن عامر ويقول لسعد: إن الأعاجم لهم آراء وآداب، ومتى نأتِهم جميعا يرَوْا أنا قد احتفلنا بهم؛ فلا تزدهم على رجل! فوافقه الجمع، وأمره سعد بأن يذهب إلى ।فيركب فرسا له قصيرة غير مظهمة ولا فارِهة، ومعه سيفه المرهف مغمورا في لفافة من ثوب خَلِق، ورمحه غمده من أديم بال، وترسه من أديم البقر، ودرعه وعمامته مما يجلل به فرسه عند امتطائه. فلما وصل إلى الجسر حبسه حرّاسه حتى يستأذنوا له، وأرسلوا إلى قائدهم، وعرف من أمره أنه رجل واحد، ولكنه جمع له مجلسه ليستشيرهم في لقاء العربي البادي؛ فأشاروا عليه بأن يهيّئ له من المظهر ما يأخذ بالنفوس إن كانت كنفوسهم، ويرهب الأفئدة إن كانت كأفئدتهم، ويعقد الألسنة إن كانت كألسنتهم، ويغشى الأبصار إن كانت كأبصارهم. وحسبوا أن هذا المظهر المترف سيكون له في نفس العربي الذي لم يألف النعمة ولم يتقلب في مظاهر الثراء وقعٌ أبلغ من وقعه في نفوسهم؛ إن لم يكن من مبالغة التقدير فسوف يكون من غفلة المفاجأة، ويأمر رستم بأن تبسط البسط وأن تصفّف النمارق، وأن يكثروا من مظاهر الثراء وآثار النعمة، وأن يوضع له سرير من ذهب، ثم يلبس القائد زينته ويتكئ على الوسائد المنسوجة من الذهب. وأقبل ربعي بن عامر يسير، وهو راكب فرسه، في وسط جموع من جند الفرس وحرس القائد، وهم ينظرون إلى مظهره وبزّته وسلاحه وعدّته في كثير من الاستخفاف أو كثير من الإشفاق، ولعلهم كانوا يتهامسون إذا كان هذا رسول العرب فما أخفّ وزنهم وما أقل شأنهم، ولعلّ غاية العرب أن نَكْسوا عريهم البادي، وأن نشبعهم من جوع ونرويهم من ظمأ. وربعي لا يلتفت إلى الأبصار الشاخصة، ولا يستمع إلى النفوس الهاجسة، ولكنه يسير على سمته لم ترهبه كثرة الجمع ولم يؤخذ بمظاهر الثراء؛ فلما وصل إلى أدنى البسط قيل له: انزل عن فرسك! فأصمّ أذنيه عن الأمر الذليل، وهمز فرسه؛ فسارت على البسط الوثيرة حتى استوت عليها، ثم نزل عنها وربطها بوسادتين من وسائد الحرير المنسوج بالذهب؛ عمد إليهما فشقّهما ثم أدخل الحبل فيهما. ولقد عقدت المفاجأةوالجرأة ألسنة القوم وقائدهم؛ فلم يمنعوه وإن أنكروا عليه، وتقدّم إليه أحدهم وقال له: ضع سلاحك! فقال له: إني لم آتيكم فأضع سلاحي بأمركم، أنتم دعوتموني؛ فإن أبيتم أن آتيكم إلا كما أريد وإلا رجعت؛ فأخبروا رستم بمقالة ربعي، فقال: ائذنوا له! هل هو إلا رجل واحد؟!. ونظر ربعي إلى سمات القوم فوجد عليها سحابات من الغيظ المكبوت والحقد المتأجّج؛ فأراد أن يزيد النار ضراما؛ فأقبل يتوكّأ على رمحه يمشي وئيدا قريب الخطو وهو يزجّ النمارق والبسط برمحه؛ فما ترك لهم نمرقة ولا بساطا إلا أفسده وتركه متهتّكا مخرقا، فلما دنا من رستم تعلّق به الحراس؛ فجلس على الأرض وركز رمحه بالبسط؛ فقالوا له: ما حملك على هذا؟ قال: إنّا لا نحبّ القعود على زينتكم هذه. وعرف القوم أنهم أخطأوا التقدير حينما حسبوا أن مظاهر النعمة ستبهر ابن الصحراء أو تشتّت عليه رأيه أو تروّع منه فؤاده، وعرف ربعي ما يهدف إليه القوم من المبالغة في إظهار مظاهر الثراء وأسباب الترف، وما خرج ربعي بفعله عن آدابه أو حاد عما تدعوه إليه أخلاقه، ولكنه أراد أن يبصر القوم بغايته قبل أن يتكلم بها، وأن يعرفهم أن هذه المظاهر قد رانت على قلوبهم؛ فلم يصل إليها نداء لحرية أو صوت يدعو إلى كرامة، أو دعوة تحثّ على مساواة، وأنّهم واهمون إن ظنوا أن غاية ربعي ومن خلفه طلب شيء من دنياهم أو الظفر بشيء من ديارهم. ويقول رستم لربعي: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام؛ فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه؛ فمن قبل منّا ذلك قبلنا ذلك منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نقضي إلى موعود الله. قال له رستم: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي، فقال رستم: قد سمعت مقالتكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه وتنظروا؟ قال: نعم، كم أحبّ إليكم؛ أيوماً أو يومين؟ قال: لا بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا. وأراد رستم أن يقرب ربعيا منه وأن يدنيه، وأن يحسن له القول ويزيّن له الحديث؛ لعلّه يجد منه إيناسا به أو ركونا إليه؛ فيمنّيه أو يَعده؛ لعله بهذا يرجع إلى قومه بوجه غير الذي جاء به، ولكن ربعيّا يبدّد الوهم بالجد من القول، فيقول: إن مما سنّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمل به أئمتنا أن لا نُمكّن الأعداء من آذاننا، ولا نؤجّلهم عند اللقاء أكثر من ثلاث؛ فنحن متردّدون عنكم ثلاثا، فانظر في أمرك وأمرهم، واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل: اختر الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فنقبل ونكفّ عنك، وإن كنت عن نصرنا غنيا تركناك منه وإن كنت إليه محتاجا منعناك، أو المنابذة في اليوم الرابع، ولسنا نبدؤك فيما بيننا وبين اليوم الرابع إلا أن تبدأنا، وأنا كفيل لك بذلك على أصحابي وعلي جميع من ترى من قومي! قال: أسيّدهم أنت؟ قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد لبعضهم من بعض؛ يجير أدناهم على أعلاهم، وخلا رستم برؤساء قومه وقال لهم: ما ترون؟ هل رأيتم كلاماً قطّ أوضح ولا أعزّ من كلام هذا الرجل؟ قالوا: معاذ الله لك أن تميل إلى شيء من هذا وتدع دينك إلى دين هذا الأعرابي الجائع! أما ترى إلى ثيابه؟! فقال: ويحكم لا تنظروا إلى الثياب ولكن انظروا إلى الرأي والكلام والسيرة؛ إن العرب تستخفّ باللباس والمآكل ويصونون الأحساب، وهم ليسوا مثلكم في اللباس ولا يرون فيه ما ترون. وعجب القوم من كلام قائدهم، وظنوا به الظنون في تقديره للعرب مثل هذا التقدير، وأرادوا أن يؤيّدوا ظنهم أو يدفعوا وهمهم؛ فتقدموا إلى ربعي وتناولوا سلاحه وهم يزهّدونه فيه، فقال لهم: هل لكم إلى أن تروني فأريكم، ثم أخرج سيفه من خرقه كأنه شعلة نار، فقال القوم: أغمده! فغمده، ثم رمى ترسا لهم فخرقه، ورموا هم وقايته من الأديم فسلمت، فقال لهم: يا أهل فارس إنكم عظمتم الطعام واللباس والشراب، وإنا صغرناهن. وعرف الفرس حينما رأوا بريق سيفه أن له مضاء ولصاحبه عزيمة، فأسرعوا إلى طلب إغماده، كما رأوا عندما انخرق ترسهم وسلمت وقايته مع تفاوت الصلابة أن الذي خرق ترسهم إنما هي قوة عزيمة ربعي وصلابة إيمانه بدعوته، وأن الذي حفظ ترسه الجلدي من رميهم إنها رمية الأذلاء المستضعفين، وأنّى للنفوس الذليلة أن يكون لها قوة، وللمستضعفين من الناس أن يكون لهم مضاء. ثم رجع ربعي إلى أن ينظر إلى الأجل؛ فلما كان من الغد بعثوا: أن ابعثوا إلينا ذلك الرجل؛ فبعث إليهم سعد حذيفة بن محصن؛ فأقبل في بذة صاحبه وهيأته وسمته وسلاحه، وعملوا له كما عملوا لصاحبه، وعمل هو معهم مثل ما عمله صاحبه؛ فلما وقف على رستم قال له: ما بالك جئت ولم يجئ صاحبنا بالأمس؟ قال: إن أميرنا يحبّ أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء؛ فهذه نوبتي، ثم سأله رستم عما جاء بهم؟ فما زاد ولا نقص عن قول ربعي، فسأله الموادعة إلى أجل؟ فقال له: لكم ثلاثة أيام من أمس، فلما لم يجد عنده إلا ذلك ردّه، وأقبل على أصحابه فقال لهم: ويحكم ألا ترون إلى ما أرى؟ جاءنا الأوّل بالأمس فغلبنا على أرضنا، وحقر ما نعظم، وأقام فرسه على ما نحفل به غالي الحرير وربطه به، وقد ذهب إلى قومه في يمن الطائر مع فضل عقله، وجاءنا هذا اليوم فما رأينا منه إلا ما رأينا من صاحب الأمس، ثم رجع كما رجع أخوه؛ فأغضبهم وأغضبوه، فلما كان من الغد أرسل: أن ابعثوا إلينا رجلا آخر منكم؛ فأرسلوا إليه المغيرة بن شعبة، فعملوا له مثل ما عملوا لصاحبيه، وعمل هو معهم مثل ما عمل صاحباه، ثم زاد أن جلس على سرير رستم واتّكأ على وسادته؛ فوثبوا عليه وأنزلوه، وحقروا فعله وشأنه؛ فلم يغضب المغيرة مما فعل به، ولعلّه أراد أن يرى من فعالهم ما يكون فيه الدليل على مهانتهم وذلتهم وسفاهة رأيهم، ثم يريهم من أمر العرب فيما بينهم ما تتوق إليه نفوسهم، وما يؤلّب عامّتهم على خاصّتهم؛ فيكون عمل بعمله هذا فوق ما يعمله جيش قوي العتاد كثير الجند، فلما رأى منهم ما رأى قال لهم: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قوما أسفه منكم، وإنا معشر العرب سواء؛ لا يستعبد بعضنا بعضا إلا أن يكون محاربا لصاحبه، فظننت أنكم تواسون قومكم كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، وأن هذا الأمر لا يستقيم فيكم فلا نصنعه، وأنا لم آتكم ولكنكم دعوتموني، اليوم علمت أن ريحكم ذاهبة وأنكم مغلبون، وأن ملكا لا يقوم على هذه السيرة ولا على هذه العقول وبلغ المغيرة بمقالته ما أراد، وحقّق لنفسه ما قصد، فوصلت مقالته إلى نفوس ظامئة إلى الحرية وإلى قلوب مطوية على ضغينة، وهي وإن تظاهرت بالرضا فما ذلك إلا لضعف حيلتها أو فقدان قيادتها، وقال المستضعفون: صدق والله العربي! وقال السادة: والله لقد رمى العربي بكلام لا يزال عبيدنا ينزعون إليه! ثم قالوا: قاتل الله من سبق منا؛ ما كان أحمقهم حين كانوا يصغّرون أمر هذه الأمة، ثم مازحه رستم ظنا منه أن المغيرة قد كره ما حصل من قومه، ثم مدّ رستم يده إلى كنانة المغيرة فأخرج منها سهما وقال له: ما هذه المغازل التي معك؟ فقال له المغيرة: ما ضرّ الجمرة ألا تكون طويلة؟! ثم قال: وما بال سيفك رثّا؟ قال: رثّ الكسوة حديد المضربة!، واستنبأه نبأ قومه، فقال مقالة صاحبيه، ولكنه تخير من اللفظ ما يثير الحميّة حتى يفضحه على المطاولة، وما ترك رستم إلا وهو متوعّد ومنذر. ولما انصرف المغيرة خلا رستم بخاصته بعد أن رأى من أمر العربي الجدّ الجادّ فقال لهم: أما ترون من أمر هؤلاء القوم أنهم لم يختلفوا، وسلكوا طريقا واحدا ولزموا أمرا واحدا؟! هؤلاء والله الرجال صادقين كانوا أم كاذبين، والله لئن كان بلغ من أربهم وصونهم لسرهم أن لا يختلفوا فما قوم أبلغ مما أرادوا منهم، ولئن كانوا صادقين ما يقوم لهؤلاء شيء. ولقد ترك المغيرة القوم وقد اختلط عليهم الأمر وتشتت منهم الرأي وتنازع الهوى؛ فالسادة يودّون الإبقاء على أبّهة الحكم والسلطان والرئاسة، والعبيد سمعوا نداء الحرية التي ينزعون إليها، وعرفوا أنهم إن فاتتهم الفرصة المواتية على أيدي المسلمين اليوم فقلّ أن تعود. ورأى القائد وذوو الرأي معه بوادر التمرّد تسري في جنبات جيشه، فأمر بالقيود والسلاسل فقيدت بها الجند وشدّت بها الرجال، وأنّى لمكره أن يدافع عن ديار؟!، وأنّى لمستعبد أن يدافع عن أوطانه، وليس له في هذا الوطن رأي مسموع ولا حق مصان ولا حياة كريمة؟!. وما عرف الفرس أن القلوب إذا طويت على ضغن من طول الإذلال فقلّ أن تستجيب لنداء أو تحفّ لنجدة، وما غناء مَن قُيّد بالقيود وقُرِن في السلاسل في الدفاع عن الأوطان والذود عن الحمى؟!.
ولقد كشف ربعي وأخواه للفرس عما يدور في المجتمع الجديد من حرية في الرأي ووحدة في الهدف وسموّ في المقصد، وأعلموهم أنهم وإن لم يكن لهم في التاريخ صفحات، ولا بين الأمم وزن إلا أنهم من اليوم سوف يكون لهم منهج من الحرية الصادقة؛ يأخذون أنفسهم به وينشرونه في الناس، وأنهم إن جاءوا إلى بلادهم اليوم وإن ذهبوا إلى بلاد غيرهم غدا فهم لا يتطلّعون فتحا لاغتصاب أرزاق ولا لاستعباد شعوب ولا لاحتلال ديار، وإنما هم يرفعون راية حرية الإنسان أينما حلّوا، وأنهم لِسموّ ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم - من توحيد الكلمة ونكران الذات وحرية الرأي وأخوة الإنسان لأخيه - لم يرضوا أن يعيشوا ناعمين بالحرية وغيرهم يرسف في أغلال العبودية، وأن الإنسانية التي طال عليها الظلام لا بدّ لها من نور ساطع قويّ ينفذ إلى النفوس المظلومة؛ فيضيء لها السبيل ويوضح الطريق ويحدّد الغاية، وأن العرب قد حملوا الأرواح على الأكفّ في سبيل دعوة الحقّ والعدالة؛ فمن مات في سبيلها مات ونفسه راضية لأنه يدافع عن مبادئ الإسعاد للإنسانية، ومن بقي منهم سرّه أن ينعم الناس بما ينعم به.
ونحن في هذه الآونة التي تمرّ بالعرب والمسلمين نحتاج إلى الكثير من أمثال ربعي وأخويه، والرأي لا ينضج إلا في ظلال الحرية والإيمان لا يقوى إلا في كنف الرحمة، كما نحتاج إلى الكثير من أمثال سعد ممّن يأخذون أمرهم بالشورى المبرّأة من الإرهاب، البعيدة عن الإعجاب بالرأي والاستبداد به؛ لأنه لا يستقيم أمر أمة استبدّ قادتها برأيهم، أو أرهبوا غيرهم حتى لا يجهروا برأي، والطريق لا توضح معالمه إلا إذا كثرت السواعد المتعاونة على تمهيده، وتبودلت الآراء في حرية تامة وأمن كامل. أما أن نقتل في النفوس حبّ الخير بالإرهاب، أو نقضي على الآراء الناضجة بالإهمال، أو نَحول بين الناس وبين إبداء آرائهم بالقسوة؛ فإن هذا أمر يجعل اليأس يتطرّق إلى القلوب؛ فلا تُخلص النصح ولا تنطوي على محبة، وقلّ أن يرتفع شأن أمة وقلوب بنيها متنافرة من القسوة أو متعادية بسبب الحرمان.
وإلى لقاء آخر في اللحظة التاريخية الثانية والثالثة ..

السبت، ١٩ يناير ٢٠٠٨

المجالس والندوات العلمية - أشياء افتقدناها فمتى تعود ؟

وهذا لون آخر من ألوان حضارتنا الزاهية، كان له أثر كبير في نشر الثقافة وذيوع العلم، ورفع المستوى الاجتماعي والذوق العلمي في الأوساط الثقافية هو تلك المجالس والندوات العلمية التي تعددت في عواصمنا ومدننا الكبرى مع ما كان للمدارس والمعاهد والمكتبات من عظم وكثرة. هذه المجالس في تعددها وتنوع أبحاثها كانت مظهراً رائعاً من مظاهر اليقظة الفكرية في أمتنا إبّان مجدها وقوتها، وإنك لا تشك حين ترى مختلف طبقات الشعب من خلفاء وأمراء وعلماء وأدباء وشعراء.. يجعلون من أبحاثهم في مجالسهم الخاصة والعامة مباريات علمية وأدبية وفلسفية، إن هذه الأمة بلغت من الشغف بالعلم والظمأ لارتياد مناهله، حداً يشعرك بعظمتها ورقيها.
كانت هذه المجالس متعددة متنوعة.. فمجالس في رحاب الخلفاء يتصدرها الخليفة بنفسه، وينتظم في عقدها أشهر العلماء والأدباء والفقهاء في عاصمته، ولقد كانت مجالس الخلفاء تتطور بتطور الحضارة الإسلامية ونمو ثقافتها. فهي في عهد الخلفاء الراشدين تتحدث عن شؤون الدولة وأعمال الولاة، بمثابة مجلس نيابي يتحدث فيه عظماء القوم عما يهمّ الدولة من شؤون وقضايا متنوعة.. احتاج عمر بن الخطاب يوماً إلى والٍ كفءٍ يُوليه عملاً هاماً من أعمال الدولة، فقال لجلسائه: دلوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمني، فقالوا: فلان، قال: لا حاجة لنا فيه، قالوا فمن تريد؟ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميرهم كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم، قالوا: ما نعرف هذه الصفة إلا في الربيع بن زياد الحارثي، قال صدقتم، فولاه. ثم أصبحت مجالس الخلفاء في عهد الأمويين مجالس للأدب والحكمة والشعر.. حضر عبد الله بن هاشم مجلس معاوية ذات يوم، فقال معاوية: من يخبرني عن الجود والنجدة والمروءة؟ فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين! أما الجود فابتذال المال والعطية قبل السؤال، وأما النجدة فالجراءة على الإقدام والصبر عند ازورار الإقدام، وأما المروءة فالصلاح في الدين والإصلاح للحال والمحاماة عن الجار.
وتطورت بعد ذلك مجالس الخلفاء في العصر العباسي، فكانت من أروع المجالس في حسن أثاثها، وسعة رحابها، وكثرة علمائها وأدبائها، وتنوع أبحاثها وفنونها، هذا عدا عن مجالس الطرب التي كانت الصبغة الأدبية غالبة عليها بما يثار فيها من حديث الشعر والشعراء وتفسير الكلمات التي يتغنى بها المغنون، ومن أشهر خلفاء بني العباس في فخامة مجالسهم وروعتها الرشيد والمأمون، أما الرشيد فقد كان يحتشد في مجالسه أعلام العلماء من كل فن وعلم، وحسبك أن كان من رواد مجالسه من الشعراء: أبو نواس، وأبو العتاهية، ودعبل، ومسلم بن الوليد، والعباس بن الأحنف، ومن الفقهاء: أبو يوسف والشافعي ومحمد بن الحسن، ومن اللغويين، أبو عبيدة والأصمعي والكسائي، ومن المؤرخين: الواقدي المؤرخ الشهير. ومن المغنين: إبراهيم الموصلي وابنه إسحق.
ومن المناظرات التي وقعت في مجلسه، أن محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة وصف الكسائي بأنه لا يُحسن الفقه، وإنما يحسن شيئاً من كلام العرب، فقال الكسائي: من تبحر في علم واحد اهتدى به إلى سائر العلوم، فقال له محمد يختبره: ما تقول فيمن سها في سجود السهو، هل يسجد مرة أخرى؟ قال الكسائي: لا، قال محمد: لماذا؟ فأجاب الكسائي: لأن النحاة تقول: المصغّر لا يصغر.
وأما المأمون فكان مجالسه من أروع المجالس العلمية في تاريخ الحضارة الإسلامية، إذ كان هو نفسه من أساطين العلماء، وكان بلاطه يموج بجمهرة عظيمة من رجال العلم والأدب والشعراء والأطباء والفلاسفة الذين استدعاهم المأمون من جهات متعددة من أنحاء مملكته وشملهم جميعاً بعنايته مهما اختلفت مشاربهم أو جنسياتهم، وكثيراً ما كان يبدأ المناقشات ويثير العلماء للبحث.
هذا ولا يفوتنا أن نذكر دور الوراقين، أي دكاكين بيع الكتب، فقد كانت أيضاً مجالس للعلماء يتساقطون فيها أطيب الحديث عن العلم، كل في العلم الذي تخصص فيه، وكان بائعو الكتب في الكثير الغالب أدباء ذوي ثقافة، يستفيدون من حرفتهم إشباع نهمهم العلمي، وحسبك أن تعلم أن ابن النديم صاحب (الفهرست) وياقوت صاحب (معجم الأدباء) و(معجم البلدان) كانا وراقين – أي بائعي كتب – وكثيراً ما كان أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، وأبو نصر الزجاج الأديب اللغوي المشهور يلتقيان في دكاكين الوراقين، يتحدثون عن الشعر والأدب مع الشعراء الذين كانوا يفدون إلى تلك الدكاكين.
وبعد، فالأمة التي تستحق الحياة تجد غذاءها في العلم قبل كل شيء. وأمتنا يوم كانت تبعث الحياة في الأمم والشعوب كانت تسلك كل سبيل للتزود من العلم ونشره وإذاعته، بل كان مختلف أبنائها من الخليفة إلى العالم والتاجر يتبارون في الاستكثار من أدوات العلم وكتبه وبناء مدارسه، وكانت كما رأيت لا يتحدث فيها إلا بما يزيد في العلم ويفتح الذهن ويصقل العقل. وهم حتى في مجالس سمرهم ولهوهم كانوا علماء وأدباء، لا يفوتهم تحقيق مسألة، أو كشف غامض، أو تصحيح خطأ.
ولم نتحدث هنا عن مجالس الفقهاء والمحدثين والوعاظ، فذلك مما شاع وذاع في كل بلدة وقرية، وقصارى القول أن حضارتنا في عصور ازدهارها ملأت العالم الإسلامي بنور العلم يغشي بيوتها ومساجدها ومدارسها وأنديتها ومجالسها ودكاكينها، حتى حق لعالم كبير كغوستاف لوبون أن يقول: إن حب العرب للعلم كان عظيماً، وأنهم بلغوا درجة رفيعة من الثقافة بعد أن أتموا فتوحهم بزمن قصير، حتى استطاعوا أن يبدعوا حضارة أينعت فيها الآداب والعلوم والفنون وبلغت الذروة!!.
وهنا لم نتطرق للحديث عن العلماء نفسهم فالأمة كانت تقود العالم في كل المجالات من الطب والهندسة والفلك والرياضيات ناهيك عن الفلسفة والأدب والشعر. وما رأينا في شهر رمضان الماضي في الجزيرة الوثائقية من أمثلة لعلماء الأمة أمر رائع جدا ولكن السؤال الذي يدور بخاطري لماذا تحجب عن الأمة سيرة هؤلاء الأفذاذ .

الأربعاء، ١٦ يناير ٢٠٠٨

الهجرة والأمل ..

في كل عام وفي مثل هذه الأيام كل منا يقف مع نفسه ليقيم عاما مضى ويفكر في عام قادم وآماله وطموحاته وماذا سيفعل الله به. وفي هذا العام وحين جاءت بداية العام التاسع والعشرون بعد الأربعمائة وألف وقفت متأملا حال عالمنا الإسلامي وحال أمتنا متسائلا ومبتهلا لله قائلا " يا رب أرسل لنا بارقة أمل حتى نستطيع أن نكمل الطريق .. يا رب لقد فعل بنا أعدائنا الأفاعيل ولم يبقى أحد على وجه الأرض إلا وقد نال منا .. يا رب إن رعاع الأرض قد تجرئوا على دينك وعلى نبيك وعلى عبادك المؤمنين .. يا رب فرج ما نحن فيه " وأثناء دعائي دارت بخاطري الأحداث التي مرت بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل وبعد الهجرة من بداية وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها ووفاة عمه أبو طالب فرجعت إلى سيرة ابن هشام وأعدت قراءة هذه الفترة فوجدت أن الهجرة كانت باب الأمل الذي فتح النصر والتمكين للإسلام ولرسول الإسلام وللمؤمنين فلنقرأ ما قاله ابن هشام قبل الهجرة" قال ابن إسحاق : وكان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته أبا لهب والحكم بن العاص بن أمية وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وابن الأصداء الهذلي وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاص ." وكذلك قال " قال ابن إسحاق : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها ; وبهلك عمه أبي طالب وكان له عضدا وحرزا في أمره ومنعة وناصرا على قومه وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين . فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش ، فنثر على رأسه ترابا " وقال ايضا قال ابن إسحاق : ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل فخرج إليهم وحده ". وعندما ذهب صلى الله عليه وسلم إلى ثقيف قال له النفر الذي جلس معهم "فقال له أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ، وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلمك أبدا . لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك" وقد وصف ابن إسحاق وضع الرسول والمسلمين قبل الهجرة بعامين قائلا " قال ابن إسحاق : ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن ". ثم عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي القوم بالإسلام والتوحيد وورائه أبو لهب ينادي عليهم ألا يسمعوا كلامه وأن لا يسلخوا اللات والعزى من أعناقهم . فعرض الرسول نفسه على كنده فأبوا وعلى بني كلب وكان منهم بطن يقال لهم بنو عبد الله فلم يقلبوا منه ما عرض. وعرض نفسه على بني حنيفة فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم . ثم عرض نفسه على بني عامر فقالوا له لا حاجة لنا بأمرك . وهكذا كان الأمر وكان الحال ثم ماذا بعد ؟! . كانت البشرى وكان الأمل وكانت إرهاصات الهجرة وكان إسلام ستة نفر من الخزرج . وبعدها بعام كانت بيعة العقبة الأولى وإرسال مصعب للمدينة . وكانت البشرى بإسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وكانا سيدا قومهما بني عبد الأشهل . وجلسا يدعوان للإسلام حتى دخل الإسلام كل دور المدينة إلا القليل . ثم كانت الهجرة وما بعدها وكانت الغزوات والفتوحات ودخل الناس في دين الله أفواجا حتى عم الخير وفتحت فارس ودخلوا في الإسلام وفتحت بلاد الروم وشمال إفريقيا وعم النور الخير على العالم .
ما أكثر المثبطات هذه الأيام. وما أكثر ما نتعرض إليه من مصائب . وما أكثر الهزائم ولقد هنا حتى على أنفسنا . ولكن الهجرة تنادينا " إن الأمل قائم دائما"
إذا كانت الهجرة مفتاح خير ونور وأمل . فالهجرة إلى الله هي أملنا أيها الإخوة . والهجرة بدراستها العميقة تعطينا الأمل أن نصر الله قادم وأن التمكين لدين الله قادم ولكن ؟ ولكن سيروا على ما كان عليه رسول الله . واجتهدوا كما اجتهد رسول الله . وابذلوا كما بذل رسول الله . أعملوا عقولكم . واتخذوا الوسائل لنصرة دينكم فالأمة مشتاقة لمن يحمل الراية . والساحة خالية تبحث عمن يملأها . هلا من مشمر .
وأنا أكتب المقال سمعت خبر استشهاد كوكبة من رجال الله في أرض الرباط ومنهم حسام الزهار . وكان واجب علي وعلينا جميعا أن نقدم التهنأة والتعازي لأهلنا في أرض الرباط وللدكتور الزهار تهنئة خاصة .

السبت، ١٢ يناير ٢٠٠٨

المكتبات في حضارتنا .. هل رأيتم مثل هذا

المكتبات الخاصة والعامة
إذا كنا نتحدث عن حضارتنا، فلابد من الحديث عن المكتبات. فقد كانت مدارس للتعليم، ومؤسسات ينفق عليها الأمراء والأثرياء والعلماء، لينتشر العلم بين الناس، وخصوصاً في ذلك الزمن الذي لم تكن فيها الطباعة موجودة، وكانت الكتب تنسخ على أيدي نساخين متخصصين لهذا العمل. فكان يبلغ بذلك ثمن الكتاب حدّاً قد يتعذر على طالب العلم أو العالم الفقير شراؤه، فكيف إذا أراد أن تكون له مجموعة من الكتب في الفن أو العلم الذي يتخصص فيه؟ ومن هنا كان قيام المكتبات في مجتمعنا الماضي منبعثاً عن عاطفة إنسانية، وعن نزعة علمية في وقت واحد.
لعل الأدب العربي هو أغنى الآداب العالمية القديمة بالتغني بالكتاب والولع به والرغبة فيه والتحدث عنه، حتى لكأنه حبيب نأى مزاره وشطّت داره، فالقلوب إليه منصرفة وبه مولعة، قال أحمد بن إسماعيل: (الكتاب هو المسامر الذي يبتدئك في حال شغلك، ولا يدعوك في وقت نشاطك، ولا يحوجك إلى التجمل له، والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك، والصديق الذي لا يغريك، والرفيق الذي لا يملُّك، والناصح الذي لا يستزلُّك). ولقد كانوا يفضلون مطالعة الكتب على غشيان الناس في مجالسهم، ويرون الأنس بها أقرب إلى القلب من الأنس بالخليفة أو ذي سلطان.
بهذه الروح العلمية شغف علماؤنا وأغنياؤنا وأمراؤنا بالكتب وجمعها، حتى أنهم كانوا يرون نكبتهم في أموالهم وبيوتهم أيسر عليهم من نكبتهم في كتبهم.
هجم الجنود مرة على دار ابن العميد بعد أن انتصروا على غلمانه وحراسه، ففر ابن العميد إلى دار الإمارة، فوجد أن خزائنه جميعها قد نهبت، حتى أنه لم يجد ما يجلس عليه، ولا وجد كُوزاً يشرب فيه الماء، واشتغل قلبه بدفاتره وكتبه، ولم يكن شيء أعز عليه منها، وكانت كثيرة تشمل جميع العلوم، وكل نوع من أنواع الحكم والأدب، تحمل على مائة بعير فأكثر، فلما رأى ابن العميد خازن مكتبته سأله عنها فأجابه: هي بحالها لم تمسها يد، فسرّي عن ابن العميد، وقال لخازنه: أشهد أنك ميمون النقيبة، أما سائر الخزائن فيوجد عنها عوض، وهذه الخزانة – أي مكتبته – هي التي لا عوض لها.
وبهذه الروح العلمية كانوا يتنافسون في شراء المؤلفات العلمية من مؤلفيها عقب الانتهاء من تأليفها. سمع الحكم أمير الأندلس بكتاب الأغاني المشهور الآن في عالم الأدب، فأرسل إلى مؤلفه أبي الفرج الأصفهاني ألف دينار من الذهب ثمن نسخة منه، فأرسل إليه أبو الفرج بنسخة من كتابه، فقُرئ كتابه في الأندلس قبل أن يُقرأ في العراق موطن المؤلف.
وقد نشأ عن هذه الروح العلمية انتشار المكتبات في شتى أنحاء العالم الإسلامي، فقلّما كانت مدرسة ليس بجانبها مكتبة، وقلّ أن تجد قرية صغيرة ليس فيها مكتبة، أما العواصم والمدن فقد كانت تغص بدور الكتب بشكل لا مثيل له في تاريخ العصور الوسطى.
كانت المكتبات نوعين رئيسيين: عامة وخاصة.
أما العامة فقد كان ينشئها الخلفاء والأمراء والعلماء والأغنياء، كانت تشيّد لها أبنية خاصة، وأحياناً كانت تلحق بالمساجد والمدارس الكبرى.
أما الأبنية الخاصة، فقد كانت تشتمل على حجرات متعددة تربط بينها أروقة فسيحة، وكانت الكتب توضع على رفوف مثبتة بالجدران تخصص كل غرفة لفرع من فروع العلم، فلكتب الفقه غرفة، ولكتب الطب غرفة، ولكتب الأدب غرفة، وهكذا. كان فيها أروقة خاصة للمطالعين، وغرف خاصة للنساخ الذين ينسخون الكتب، وفي بعضها غرف للموسيقى، يلجأ إليها المطالعون للترفيه وتجديد النشاط – وهذا مما تفرّدت به حضارتنا – وفيها غرف لحلقات الدراسة والنقاش العلمي بين رواد تلك المكتبات. وكانت جميعها تؤثث تأثيثاً فخماً ومريحاً، وكان في بعضها غرف لطعام روادها، ومنامة للغرباء منهم، كالذي قيل في مكتبة علي بن يحيى بن المنجم، فقد كان له قصر عظيم في قرية قريبة من بغداد (هي كركر من نواحي القفص) وفيه مكتبة عظيمة كان يسميها خزانة الحكمة، يقصدها الناس من كل بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والأرزاق مغدقة عليهم، وكل ذلك من مال علي بن يحيى نفسه. بل هنالك ما هو أطرف من ذلك مما لا نعلم له مثيلاً اليوم في أرقى عواصم الحضارة الغربية، فقد كان في الموصل دار أنشأها أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، وسماها دار العلم، وجعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفاً على كل طالب علم لا يمنع أحد من دخولها، وإذا جاءها غريب يطلب الأدب وكان معسراً أعطاه ورقاً وورقاً، (أي كتباً ونقوداً)، وكانت تفتح في كل يوم.. فهل سمعتم حتى الآن بمكتبة في لندن أو واشنطن، أو عاصمة من عواصم العالم الكبرى اليوم تمنح الأدب والأموال لطلبة العلم؟..
وكان للمكتبات العامة موظفون يرئسهم خازن المكتبة، وهو دائماً من أشهر علماء عصره، ومناولون يناولون الكتب للمطالعين، ومترجمون ينقلون الكتب من غير العربية إلى العربية، ونساخ يكتبون الكتب بخطوطهم الجميلة، ومجلدون يجلدون الكتب لتحفظ من التمزق والضياع، هذا عدا عن الخدم وغيرهم ممن تقتضيهم حاجة المكتبات.
وكان لكل مكتبة صغيرة أو كبيرة فهارس يُرجع إليها لسهولة استعمال الكتب، وهي مبوبة بحسب أبواب العلم، وبجانب هذا كانت توضع قائمة على كل دولاب تحتوي أسماء الكتب الموجودة في الدولاب. وكان من المعروف في نظام المكتبات أن الاستعارة الخارجية مسموحة في أغلبها لقاء ضمان عن الكتاب من عامة الناس، أما العلماء وذوو الفضل فلم يؤخذ منهم ضمان.
أما الموارد المالية التي كانت تقوم بنفقات المكتبات، فمنها ما كان من الأوقاف التي تنشأ من أجلها خاصة، وهذه حال أكثر المكتبات العامة ومنها ما كان من عطايا الأمراء والأغنياء والعلماء الذين يؤسسون تلك المكتبات، فقد قالوا إنه كان عطاء محمد بن عبد الملك الزيات للنقلة والنُّساخ في مكتبته ألفي دينار كل شهر. وكان المأمون يعطي حنين بن اسحق من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربية مثلاً بمثل.
والآن لنذكر بعض الأمثلة عن المكتبات العامة والخاصة التي كان لها ذكر في التاريخ.
من أشهر المكتبات: مكتبة الخلفاء الفاطميين في القاهرة. كانت مكتبة عجيبة بما حوت من نفائس المصاحف والكتب، بلغ مجموع كتبها كما يروي كثير من المؤرخين مليوني كتاب، وإن كان المقريزي يميل إلى أنها مليون وستمائة ألف كتاب.
ومنها مكتبة دار الحكمة بالقاهرة، وأنشأها الحاكم بأمر الله، وافتتحت في 10 من جمادى الآخرة 395هـ، وقد جمع فيها من الكتب ما لم يجتمع لأحد قط من الملوك. حتى كانت تضم أربعين خزانة، احتوت إحدى خزائنها على 18000 كتاب.
ومنها بيت الحكمة في بغداد، أنشأها هارون الرشيد، وبلغت ذروة مجدها في عصر المأمون. كانت أشبه بجامعة فيها كتب يجتمع فيها رجال يتفاوضون ويطالعون وينسخون، وكان فيها نساخ ومترجمون يترجمون ما كان يحصل عليه الرشيد والمأمون في فتوحاتهم بأنقرة وعمورية وقبرص.
ومنها مكتبة الحكم بالأندلس. كانت غاية في العظمة والاتساع، حتى قيل إنها بلغت أربعمائة ألف مجلد، وكانت لها فهارس غاية في الدقة والنظام، حتى أن الفهرست الخاص بدواوين الشعر الموجودة في تلك المكتبة بلغت أربعة وأربعين جزءاً .
ومنها مكتبة بني عمار في طرابلس. كانت آية من الآيات في العظمة والضخامة. كان فيها مائة وثمانون ناسخاً ينسخون فيها الكتب، ويتبادلون العمل ليلاً ونهاراً بحيث لا ينقطع النسخ.
ومن المكتبات الخاصة ما يتحدث التاريخ عنها بإعجاب، وقد كانت في كل بلد في شرق العالم الإسلامي وغربه، وقلّ أن تجد عالماً إلا وله مكتبة كانت تحوي آلافاً من الكتب. فمنها مكتبة الفتح بن خاقان (المقتول في عام 247هـ) وكانت مكتبته واسعة، عَهِد بجمعها إلى رجل من خيرة رجال عصره علماً وأدباً، وهو علي بن يحيى المنجم، حتى جمع له فيها من كتب الحكمة ما لم يجتمع في خزانة حكمة قط.
ومنها مكتبة ابن الخشاب (المتوفى عام 567هـ)، كان من أعلم الناس بالنحو وكانت له معرفة في التفسير والحديث والمنطق والفلسفة. وكان مولعاً بالكتب.
ومنها مكتبة جمال الدين القفطي (المتوفى عام 646هـ)، جمع من الكتب ما لا يوصف، وقُصد بها من الآفاق طمعاً في سخائه وكرمه، وكان لا يحب من الدنيا سوى الكتب، فأوقف عليها نفسه، ورفض أن يتزوج حتى لا يشغله الأهل والأولاد عنها، وأوصى بمكتبته للناصر، وكانت تساوي خمسين ألف دينار.
ومنها مكتبة بني جرادة العلماء في حلب، كتب أحدهم – أبو الحسن ابن أبي جرادة (548هـ) بخطه ثلاث خزائن من الكتب النفيسة، وخزانة لولده أبي البركات، وخزانة لابنه عبد الله.
ومنها مكتبة الموفق بن المطران الدمشقي (587هـ)، كانت له همة عالية في تحصيل الكتب، حتى أنه لما مات كان في خزانته من الكتب الطبية وغيرها، عشرة آلاف مجلد، وكان في خدمته ثلاثة نساخ يكتبون له أبداً، ويعطيهم رواتبهم وأرزاقهم.
وبعد، فلئن كانت النشوة تملأ نفوسنا حين نتحدث عن انتشار المكتبات في العالم الإسلامي في عصور حضارته الزاهرة فإن الأسى ليملأ قلوبنا حين نتذكر مصائر هذه المكتبات، وما تعرضت له من بوار وحرائق لا يمكن أن تقدر خسارة العلم فيها أبداً.
لقد أصيبت مكتباتنا بما قضى على ملايين الكتب منها بحيث فقدها العالم إلى الأبد، وهي من أثمن ما خلفه الفكر الإسلامي في التاريخ.
فنكبة التتار حين افتتحوا بغداد، أصابت هذه المكتبات قبل أن تصيب أي شيء غيرها، وكلنا يعلم أن التتار الهمج قذفوا بما وجدوا في دور الكتب العامة في نهر دجلة حتى فاض النهر بالكتب الملقاة فيه، فكان يعبر الفارس عليها من ضفة إلى ضفة، وظل ماء النهر أسود داكناً أشهراً طويلة من تغيره بمداد الكتب التي أغرقت فيه..
ونكبة الغزو الصليبي أفقدتنا أعز المكتبات التي كانت في طرابلس والمعرة والقدس وغزة وعسقلان وغيرها من المدن التي خربها الصليبيون، وحسبنا أن نعلم أن بعض المؤرخين قدّر ما أتلفه الصليبيون في طرابلس وحدها بثلاثة ملايين مجلد.
ونكبة استيلاء الأسبان على الأندلس أفقدتنا تلك المكتبات العظيمة التي يتحدث عنها التاريخ بذهول، فقد احترقت كلها بفعل المتدينين المتعصبين، حتى أنه قد أحرق في يوم واحد في ميدان غرناطة ما قدّره المؤرخون بمليون كتاب.
هذا حديث مكتباتنا في عصور حضارتنا، وهذه نهاية ما انتهت إليه، ولئن كان الاعتراف للأعداء بالجميل صعباً على النفس، فإن من الواجب أن نعترف أن دور الكتب في أوروبا حفظت لنا كثيراً من البقية الباقية من هذا التراث، وأن فيها من ذخائر المؤلفات العربية ما لا يوجد في العالم الإسلامي كله الآن.

الأربعاء، ٩ يناير ٢٠٠٨

طالب الهندسة والشيخ ..

كنت أقرأ إحدى المقالات الغثة التي كثرت في صحفنا في هذا الزمن . فتداعت علي الذكريات . ففي أحد أيام شتاء 1987 قام اتحاد الطلبة في كلية الهندسة بشبرا بتوجيه دعوة لأحد علماء الأزهر الأجلاء لإلقاء محاضرة في الكلية على أن يقوم فضيلته بتوجيه طلبة كلية الهندسة إلى المفهوم الوسطي للإسلام وتوجيه الطلبة في هذه الفترة من العمر إلى فائدة الالتزام بدين الله . ووافق فضيلة الشيخ على الدعوة وأتى إلى الكلية وقابله السيد العميد وتوجه إلى القاعة المعدة للمحاضرة ، وتكلم فضيلته كلاما رائعا موجها الشباب إلى المفهوم الصحيح للدين وعدد الآيات والأحاديث والقصص التي تؤيد كلامه ولاقت كلماته ترحيبا من جميع الحاضرين . إلا أنه قام أحد الحاضرين من الطلبة وشكك في كلام الشيخ وتكلم معه بأسلوب لا يليق . وتكلم عن الإسلام بأنه انتشر بالسيف وأن الدين الإسلامي ومن يتبعه لا يستطيعون نشر مبادئ الدين إلا بالقوة وتكلم عن أن تاريخ المسلمين مليء بالدماء وكذلك حاضرهم وأن أصحاب الفكر الإسلامي يعتبرون غيرهم من الكفار وكان يتحدث مع الشيخ بلهجة سيئة جدا . فقام الشيخ بالرد عليه ردودا علمية واستدل بالآيات والأحاديث وفند كل ما جاء في كلمات هذا الطالب . ولكن الطالب لم يعجبه هدوء الشيخ فرفع صوته قائلا : أنه جاء في كتاب شهير عند المسلمين وذكر رقم الصفحة أن المجتمع الذي لا يطبق الشريعة مجتمع كافر وجلس يذكر من رأسه كلمات عن تكفير وتجهيل المجتمع فرد الشيخ عليه بأن الشيخ قد قرأ هذا الكتاب عدة مرات ولا توجد هذه الكلمات في الكتاب المذكور . فقام الطالب برفع صوته على الشيخ واتهمه بالكذب والخداع كباقي المسلمين . يبقى أخي القارئ ان تعرف ان هذا الطالب هو المخرج المعروف خالد يوسف الذي ملأ الدنيا ضجيجا . تذكرت هذه الحادثة حين قرأت كلاما له في الصحف بعد أن هاجمه مجموعة من الشيوخ بسبب أفلامه التي قام بإخراجها . فقال المخرج خالد يوسف أنه لا يجب على أحد أن يزايد على تدينه ووطنيته . وقد شاهدته في أحد البرامج وهو ينظر في الإسلام ويطرح رؤاه .
والمتتبع لكل أفلام المخرج خالد يوسف سيجد أنها جميعا تحتوي على مشاهد خادشة للحياء ومخلة . ومشاهد عري فاضح وأفلامه جميعا لاتدعو إلى فضيلة أو خير . أي أن حاضره لا يختلف كثيرا عن ماضيه . وآخر أفلامه شاهدا على ذلك . فالدعاية المنتشرة للفيلم تدل على أن به مشاهد للسحاق ومشاهد للاغتصاب . وهذه المشاهد أظن أنها تدعو الشباب صراحة لرؤية هذه الأعمال وتقليدها وهي هدم صريح للمجتمع وحرب صريحة على لإسلام .
وما أود ان اقوله أن شخص هذا تاريخه . وأنا أشهد أن الرجل حينما كنا زملاء في كلية الهندسة لم يكن من الملتزمين بالدين ولكنه كان من الذين يحاربون الإسلام محاربة شديدة . ويوم أن فاز الإسلاميون باتحاد الطلبة في الكلية جلس يدور هنا وهناك ويهدد ويذهب إلى العميد وإلى كل الجهات ليحذرهم من هؤلاء الذين فازوا .
شخص هذا تاريخه لا تنتظروا منه خيرا . ولا تنتظروا أن يقدم لكم ما يصلح شباب الأمة . ولا تنتظروا منه إلا حربا ضروسا ومحاولات حثيثة لإفساد الشباب والنساء .
فلابد لنا جميعا من وقفة معه ومع أمثاله أقلها مقاطعة أفلامه وإرسال رسائل له تفيد رفضنا لكل أعماله ।وفي الختام أدعو له ولأمثاله بالهدايه وحسن الخاتمة .
هذا المقال نشر بجريدة المصريون في اثنى عشر من يناير الفان وثمانمائة

الخميس، ٣ يناير ٢٠٠٨

المستشفيات في حضارتنا .. هل كان لها مثيل ؟

المستشفيات والمعاهد الطبية : من المبادئ التي قامت عليها حضارتنا، جمعها بين حاجة الجسم وحاجة الروح، واعتبارها العناية بالجسم، ومطالبه ضرورية لتحقيق سعادة الإنسان وإشراق روحه، ومن الكلمات المأثورات عن واضع أسس هذه الحضارة رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن لجسدك عليك حقاً)(1) ومن الملاحظ في عبادات الإسلام تحقيقها أهم غرض من أغراض علم الطب وهو حفظ الصحة(2) فالصلاة والصيام والحج وما تتطلبه هذه العبادات من شروط وأركان وأعمال، كلها تحفظ للجسم صحته ونشاطه وقوته، وإذا أضفنا إلى ذلك مقاومة الإسلام للأمراض وانتشارها، وترغيبه في طلب العلاج المكافح لها، علمـت أسس قوية قام عليها بناء حضارتنا في ميـدان الطـب، ومبلغ ما أفاده العلم من حضارتنا في إقامة المشافي والمعاهد الطبية، وتخريج الأطباء الذين لا تزال الإنسانية تفخر بأياديهم على العلم عامة والطب خاصة.
عرف العرب مدرسة جنديسابور الطبية التي أنشأها كسرى في منتصف القرن السادس الميلادي وتخرج فيها بعض أطبائهم، كالحارث بن كلدة الذي عاش في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يشير على أصحابه بالتداوي عنده حين تنتابهم الأمراض. وفي عهد الوليد بن عبد الملك أنشئ أول مستشفى في الإسلام، وهو خاص بالمجذومين، وجعل فيه الأطباء، وأجرى لهم الأرزاق. ثم تتابع إنشاء المشافي، وقد كانت تعرف باسم (البيمارستانات) أي دور المرضى.
وكانت المستشفيات نوعين: نوعاً متنقلاً، ونوعاً ثابتاً، أما المتنقل فأول ما عُرف في الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ، في غزوة الخندق، إذ ضرب خيمة للجرحى فلما أصيب سعد بن معاذ في أكحله (والأكحل عرق في الذراع يفصد) قال صلى الله عليه وسلم : إجعلوه في خيمة رفيدة، حتى أعوده من قريب، وهو أول مستشفى حربي متنقل في الإسلام، ثم توسع فيه الخلفاء والملوك من بعد، حتى أصبح المستشفى المتنقل مجهزاً بجميع ما يحتاجه المرضى، من علاج وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة، وكان ينقل من قرية إلى قرية في الأماكن التي لم يكن فيها مستشفيات ثابتة.
وأما المستشفيات الثابتة، فقد كانت كثيرة تفيض بها المدن والعواصم ولم تخل بلدة صغيرة في العالم الإسلامي يومئذ من مستشفى فأكثر، حتى أن قرطبة وحدها كان فيها خمسون مستشفى.
وتنوعت المستشفيات، فهناك مستشفيات للجيش يقوم عليها أطباء مخصوصون، عدا عن أطباء الخليفة والقواد والأمراء، وهناك مستشفيات للمساجين، يطوف عليهم الأطباء في كل يوم فيعالجون مرضاهم بالأدوية اللازمة.
وهناك محطات للإسعاف كانت تقام بالقرب من الجوامع والأماكن العامة التي يزدحم فيها الجمهور، ويحدثنا المقريزي أن ابن طولون حين بنى جامعه الشهير في مصر عمل في مؤخره ميضأة وخزانة شراب (أي صيدلية أدوية) وفيها جميع الشرابات والأدوية، وعليها خدم، وفيها طبيب جالس يوم الجمعة، لمعالجة من يصابون بالأمراض من المصلين.
وهناك المستشفيات العامة، التي كانت تفتح أبوابها لمعالجة الجمهور، وكانت تقسم إلى قسمين منفصلين بعضهما عن بعض: قسم للذكور، وقسم للإناث، وكل قسم فيه قاعات متعددة، كل واحدة منها لنوع من الأمراض، فمنها للأمراض الداخلية، ومنها للعيون، ومنها للجراحة، ومحنها للكسور والتجبير، ومنها للأمراض العقلية، وقسم للأمراض الداخلية كان مقسماً إلى غرف أيضاً، فغُرف منها للحميّات، وغرف للإسهال، وغير ذلك، ولكل قسم أطباء عليهم رئيس، فرئيس للأمراض الباطنية، ورئيس للجراحين والمجبرين، ورئيس للكحالين (أي أطباء العيون)، ولكل الأقسام رئيس عام يسمى (ساعور) وهو لقب لرئيس الأطباء في المستشفى وكان الأطباء يشتغلون بالنوبة، ولكل طبيب وقت معين يلازم فيه قاعاته التي يعالج فيها المرضى. وفي كل مستشفى عدد من الفراشين من الرجال والنساء والممرضين والمساعدين، ولهم رواتب معلومة وافرة. وفي كل مستشفى صيدلية كانت تسمى (خزانة الشراب) فيها أنواع الأشربة والمعاجين النفسية، والمربيات الفاخرة، وأصناف الأدوية، والعطورات الفائقة التي لا توجد إلا فيها، وفيها من الآلات الجراحية والأواني الزجاجية وغير ذلك، وما لا يوجد إلا في خزائن الملوك.
وكانت المستشفيات معاهد طبية أيضاً، ففي كل مستشفى إيوان كبير (قاعة كبيرة) للمحاضرات، يجلس فيه كبير الأطباء ومعه الأطباء والطلاب، وبجانبهم الآلات والكتب، فيقعد التلاميذ بين يدي معلمهم، بعد أن يتفقدوا المرضى وينتهوا من علاجهم، ثم تجري المباحث الطبية والمناقشات بين الأستاذ وتلاميذه، والقراءة في الكتب الطبية، وكثيراً ما كان الأستاذ يصطحب معه تلاميذه إلى داخل المستشفى ليقوم بإجراء الدروس العلمية لطلابه على المرضى بحضورهم، كما يقع اليوم في المستشفيات الملحقة بكليات الطب، قال ابن أبي أصيبعة، وهو ممن درس الطب في البيمارستان النوري بدمشق: (كنت بعدما يفرغ الحكيم مهذب الدين، والحكيم عمران من معالجة المرضى المقيمين بالبيمارستان وأنا معهم، أجلس مع الشيخ رضي الدين الرحبي فأعاين كيفية استدلاله على الأمراض وجملة ما يصفه للمرضى وما يكتب لهم، وأبحث معه في كثير من الأمراض ومداواتها).
وكان لا يسمح للطبيب بالانفراد بالمعالجة حتى يؤدي امتحاناً أمام كبير أطباء الدولة، يتقدم إليه برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة في معاناته، وهي من تأليفه أو تأليف أحد كبار علماء الطب، له عليها دراسات وشروح، فيمتحنه فيها ويسأله عن كل ما يتعلق بما فيها من الفن، فإذا أحسن الإجابة أجازه كبير الأطباء بما يسمح له بمزاولة مهنة الطب، وقد اتفق في عام 319هـ 931م في أيام الخليفة المقتدر أن بعض الأطباء أخطأ في علاج رجل فمات، فأمر الخليفة أن يمتحن جميع أطباء بغداد من جديد، فامتحنهم سنان بن ثابت كبير أطباء بغداد، فبلغ عددهم في بغداد وحدها ثمانمائة طبيب ونيفاً وستين طبيباً، هذا عدا عمن لم يمتحنوا من مشاهير الأطباء، وعدا عن أطباء الخليفة والوزراء والأمراء.
ولا يفوتنا أن نذكر أنه كان يلحق بكل مستشفى مكتبة عامرة بكتب الطب وغيرها مما يحتاجه الأطباء وتلاميذهم، حتى قالوا: إنه كان في مستشفى ابن طولون بالقاهرة خزانة كتب تحتوي على ما يزيد على مائة ألف مجلد في سائر العلوم.
أما نظام الدخول إلى المستشفيات، فقد كان مجاناً للجميع، لا فرق بين غني وفقير وبعيد وقريب، ونابه وخامل، يُفحص المرضى أولاً بالقاعة الخارجية، فمن كان به مرض خفيف يكتب له العلاج، ويصرف من صيدلية المستشفى، ومن كانت حالته المرضية تستوجب دخوله المستشفى كان يقيد اسمه، ويدخل إلى الحمام، وتخلع عنه ثيابه فتوضع في مخزن خاص، ثم يعطى له سرير مفروش بأثاث جيد، ثم يعطى الدواء الذي يعينه الطبيب، والغذاء الموافق لصحته، بالمقدار المفروض له، فإذا أصبح في دور النقاهة أُدخل القاعة المخصصة للناقهين، حتى إذا تم شفاؤه أُعطي بدلة من الثياب الجديدة، ومبلغاً من المال يكفيه إلى أن يصبح قادراً على العمل. وكانت غرف المستشفى نظيفة تجري فيها المياه، وقاعاته مفروشة بأحسن الأثاث، ولكل مستشفى مفتشون على النظافة، ومراقبون للقيود المالية، وكثيراً ما كان الخليفة أو الأمير يتفقد بنفسه المرضى، ويُشرف على حسن معاملتهم.
هذا هو النظام السائد في جميع المستشفيات التي كانت قائمة في العالم الإسلامي، سواء في المغرب أم المشرق.. في مستشفيات بغداد ودمشق والقاهرة والقدس ومكة والمدينة والمغرب والأندلس.. وسنقتصر في حديثنا على أربع مستشفيات في أربع مدن من عواصم الإسلام في تلك العصور:
الأول- المستشفى العضدي ببغداد: بناه عضد الدولة بن بويه عام 371هـ بعد أن اختار الرازي الطبيب المشهور مكانه بأن وضع أربع قطع لحم في أربع أنحاء ببغداد ليلاً، فلما أصبح وجد أحسنها رائحة في المكان الذي أقيم عليه المستشفى فيما بعد، فأقيم المستشفى وأنفق عليه مالاً عظيماً وجمع له من الأطباء أربعة وعشرين طبيباً، وألحق به كل ما يحتاج إليه من مكتبة علمية وصيدلية ومطابخ ومخازن. وفي عام 449هـ جدّد الخليفة القائم بأمر الله هذا المستشفى، وجمع فيه من الأشربة والأدوية والعقاقير التي يعز وجودها كثيراً.
الثاني- المستشفى النوري الكبير بدمشق: أنشأه السلطان الملك العادل نور الدين الشهيد سنة 549هـ 1154م من مال أخذه فدية من أحد ملوك الفرنج، وكان حين بنائه من أحسن ما بُني من المستشفيات في البلاد كلها، شرط فيه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا اضطر الأغنياء إلى الأدوية التي فيه يسمح لهم بها، وكان الشراب فيه والدواء مباحاً لكل مريض يقصده.
وقد استمر هذا المستشفى يقوم بعمله العظيم حتى سنة 1317هـ، حيث أنشئ مستشفى الغرباء، وهو المستشفى الذي تشرف عليه الآن كلية الطب في الجامعة السورية، فأقفل المستشفى النوري، ثم استعمل مدرسة أهلية.
الثالث- المستشفى المنصوري الكبير: المعروف بمارستان قلاوون، كان داراً لبعض الأمراء، فحوّلها الملك المنصور سيف الدين قلاوون إلى مستشفى عام 683هـ 1308م، وأوقف عليه ما يغل عليه ألف درهم في كل سنة، ألحق به مسجداً ومدرسة ومكتباً للأيتام. وأدى هذا المستشفى عمله الإنساني الجليل حتى أخبر أطباء العيون الذين عملوا فيه أنه كان يعالج فيه كل يوم من المرضى الداخلين إليه والناقهين الخارجين أربعة آلاف نفس، ولا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يُعطى كسوة للباسه ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر للإلتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه.
ومن أروع ما فيه أيضاً، النص في وقفيته على أن يُقدم طعام كل مريض بزبدية خاصة به من غير أن يستعملها مريض آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل.
الرابع- مستشفى مراكش: وهو الذي أنشأه أمير المؤمنين المنصور أبو يوسف من ملوك الموحدين بالمغرب. تخيّر ساحة فسيحة في مراكش بأعدل موضع فيها، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه، وأمر أن يغرس فيه من جميع الأشجار والمشمومات والمأكولات، وأجرى فيه مياهاً كثيرة تدور على جميع البيوت زيادة على أربع بُرَكٍ في وسط إحداها رخام أبيض، ثم أمر له من الفرش النفيسة من أنواع الصوف والكتان والحرير والأديم وغيره ما لا يوصف، وأقام فيه الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدّ فيه للمريض ثياب ليل ونهار من جهاز الصيف والشتاء، فإذا نقه المريض، فإن كان فقيراً أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يشتغل، وإن كان غنياً دفع إليه ماله. ولم يقصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كان من مرض بمراكش من غريب حمل إليه وعولج حتى يشفى أو يموت. وكان في كل جمعة يزوره ويعود المرضى ويسأل عن أحوالهم وعن معاملة الأطباء والممرضين لهم.
وبعد، فهذه نماذج أربعة من مئات المستشفيات التي كانت منتشرة في شرق العالم الإسلامي وغربه، يوم كانت أوروبة تتيه في ظلام الجهل ولا تعرف شيئاً من هذه المستشفيات ودقتها ونظافتها وسمو العاطفة الإنسانية فيها، وإليك ما قاله المستشرق الألماني ماكس مايرهوف عن حالة المستشفيات في أوروبا في العصر الذي كانت فيه المستشفيات في حضارتنا كما وصفناها.. قال الدكتور ماكس: (إن المستشفيات العربية ونظم الصحة في البلاد الإسلامية الغابرة لتلقي علينا الآن درساً قاسياً مُرّاً لا نقدره حق قدره إلا بعد القيام بمقارنة بسيطة مع مستشفيات أوروبا في ذلك الزمن نفسه). مرّ أكثر من ثلاثة قرون على أوروبا، اعتباراً من زمننا هذا، قبل أن تعرف المستشفيات العامة معنى، ولا نبالغ إذا قلنا بأنه حتى القرن الثامن عشر (1710م) والمرضى يعالجون في بيوتهم، أو في دور خاصة كانت المستشفيات الأوروبية قبلها عبارة عن دور عطف وإحسان، ومأوى لمن لا مأوى لديه، مرضى كانوا أم عاجزين، وأصدق مثال لذلك هو مستشفى (أوتيل ديو) بباريس، أكبر مستشفيات أوروبا في ذلك العصر، وصفه كل من ماكس توردو وتينون بما يلي:
(يحتوي المستشفى على 1200 سريراً، منها 486 خصصت لنفر واحد، أما الباقي – ولم تكن سعة الواحد منها تتجاوز خمسة أقدام – فتجد فيها عادة ما يتراوح بين ثلاثة مرضى وستة، وكانت الردهات الكبرى عفنة كثيرة الرطوبة، لا منافذ تهوية فيها، مظلمة دوماً، ترى فيها في كل حين حوالي ثمانمائة مريض يفترشون الأرض وهم مكدسون بعضهم فوق بعض، على القاع، أو على كوم من القش، في حالة يُرثى لها.. إنك لتجد في السرير ذي الحجم المتوسط أربعة أو خمسة أو ستة مرضى متلاصقين، قدم أحدهم على رأس الثاني، تجد أطفالاً بجانب شيوخ، ونساء بجانب رجال، (قد لا تصدق لكنها الحقيقة) تجد امرأة في المخاض مع طفل في حالة تشنج مصاب بالتيفوس يحترق في بحران الحمى، وكلاهما إلى جنب مريض بداء جلدي يحك جلده المهترئ بأظفاره الدامية فيجري قيح البثور على الأغطية. وطعام المرضى من أخس ما يتصوره العقل، يوزع عليهم بكميات قليلة للغاية، وفي فترات متباعدة لا نظام فيها. واعتادت الراهبات أن يحابين المرضى الطائعين المنافقين على حساب الآخرين، فيسقينهم الخمور، ويصلنهم بالحلوى والمآكل الدسمة مما يتفضل به المحسنون في الوقت الذي هم فيه أحوج إلى الحمية، فيموت الكثير منهم بالتخمة ويفطس غيرهم جوعاً. وكانت أبواب المستشفى مفتوحة في كل وقت وحين، ولكل رائح وغاد، وبهذا تنتشر العدوى بانتقالها، وبالفضلات وبالهواء النتن الملوث. وإن لم يتفضل المحسنون على المرضى ماتوا جوعاً، كما يموتون أحياناً بالتخمة أو من فرط السكر، والفرش حافلة بالحشرات الدنيئة وهواء الحجرات لا يُطاق لفساده، حتى أن الخدم والممرضين لم يكونوا يجرؤون على الدخول إلا بعد وضع إسفنجة مبللة بالخل على أنوفهم. وتترك جثث الموتى 24 ساعة على الأقل قبل رفعها من السرير المشاع، وكثيراً ما تتفسخ الجثة وتتعفن وهي ملقاة بجانب مريض يكاد يطير صوابه).
هذه مقارنة بسيطة بين حالة المستشفيات عندنا في عهود حضارتنا، وحالتها عند الغربيين في تلك العصور، وهي تدل على مبلغ الانحطاط العلمي الذي كان عليه القوم، والجهل الفاضح بأصول المستشفيات، بل بقواعد الصحة العامة البديهية.
ونختم هذا الحديث بالنتائج التي نحب أن نلفت الأنظار إليها بعد هذه المقارنات، أننا في حضارتنا كنا أسبق من الغربيين في تنظيم المستشفيات بتسعة قرون على الأقل.. وأن مستشفياتنا قامت على عاطفة إنسانية نبيلة لا مثيل لها في التاريخ، ولا يعرفها الغربيون حتى اليوم.. وأننا كنا أسبق الأمم إلى معرفة ما للموسيقى والأدب المضحك والإيحاء الذاتي من أمر بالغ في شفاء المرضى.. وأننا بلغنا في تحقيق التكافل الاجتماعي حداً لم تبلغه الحضارة الغربية حتى اليوم حين نجعل الطب والعلاج والغذاء للمرضى بالمجان، بل حين كنا نعطي الفقير الناقه من المال ما ينفق على نفسه حتى يصبح قادراً على العمل.. إن هذه نزعة إنسانية بلغنا فيها الذروة يوم كنا نحمل لواء الحضارة، فأين نحن منها اليوم، وأين منها هؤلاء الغربيون؟.
--------------------------
(1) رواه البخاري ومسلم. (2) يعرف الطب (علي بن عباس) بأنه: علم يبحث في حفظ الصحة على الأصحاء وردها على المرضى.

المدارس في حضارتنا .. هل نستعيد مجدها !!!

المدارس والمعاهد العلمية

أما المدارس، وهي التي قامت على الأوقاف الكثيرة التي تبرع بها الأغنياء من قادة وعلماء وتجار وملوك وأمراء، فقد بلغت من الكثرة حدا بالغا، وحسبك أن تعلم أنه لم تخل مدينة ولا قرية، في طول العالم الإسلامي وعرضه، من مدارس متعددة يُعلِّم فيها عشرات من المعلمين والمدرسين.
كان المسجد هو النواة الأولى للمدرسة في حضارتنا، فلم يكن مكان عبادة فحسب بل كان مدرسة يتعلم فيها المسلمون القراءة والكتابة والقرآن وعلوم الشريعة واللغة وفروع العلوم المختلفة، ثم أقيم بجانب المسجد الكتاب، وخصص لتعليم القراءة والكتابة والقرآن وشيئ من علوم العربية والرياضة، وكان الكتّاب يشبه المدرسة الابتدائية في عصرنا الحاضر، وكان من الكثرة حيث عدّ ابن حوقل ثلاثمائة كتّاب في مدينة واحدة من مدن صقلية. وكان من الاتساع أحيانا بحيث يضم الكتّاب الواحد مئات وآلافاً من الطلاب. ومما يذكر في تاريخ أبي القاسم البلخي أنه كان له كتّاب يتعلم به ثلاثة آلاف تلميذ.
ثم قامت المدرسة بجانب الكتّاب والمسجد، وكانت الدراسة فيها تشبه الدراسة الثانوية والعالية في عصرنا الحاضر. كان التعليم فيها مجانا ولمختلف الطبقات. وكانت الدراسة فيها قسمين: قسما داخليا للغرباء والذين لا تساعدهم أحوالهم المادية علي أن يعيشوا علي نفقات آبائهم، وقسما خارجياً لمن يريد أن يرجع في المساء إلى بيت أهله وذويه. أما القسم الداخلي فكان بالمجان أيضا، يهيأ للطالب فيه الطعام والنوم والمطالعة والعبادة.. وبذلك كانت كل مدرسة تحتوي علي مسجد، وقاعات للدراسة، وغرف لنوم الطلاب، ومكتبة، ومطبخ وحمام. وكانت بعض المدارس تحتوي فوق ذلك على ملاعب للرياضة البدنية في الهواء الطلق. ولا تزال لدينا حتى الآن نماذج من هذه المدارس التي غمرت العالم الإسلامي كله، ففي دمشق لا تزال المدرسة النورية التي أنشأها البطل العظيم نور الدين الشهيد، وهي الواقعة الآن في سوق الخياطين، ولا تزال قائمة تعطينا نموذجا حيا لهندسة المدارس في عصور الحضارة الإسلامية، لقد زارها الرحالة ابن جبير في أوائل القرن السابع الهجري، فأعجب بها وكتب عنها. ونجد مثلها في حلب في مدارس الشعبانية والعثمانية والخسروية، حيث لا يزال فيها للطلاب غرف يسكنونها وقاعات للدراسة، وقد كانوا من قبل يأكلون فيها، ثم عدل عن ذلك إلى راتب معلوم في آخر كل شهر يعطى للطلاب المنتسبين إليها.
وأظهر مثال لهذه المدارس الجامع الأزهر، فهو مسجد تقام في أبهائه حلقات للدراسة، تحيط به من جهاته المتعددة غرف لسكن الطلاب تسمى بالأروقة، يسكنها طلاب كل بلد بجانب واحد، فرواق للشاميين، ورواق للمغاربة، ورواق للأتراك، ورواق للسودانيين، وهكذا..
وجدير بنا ونحن نتحدث عن المدارس أن نتحدث عن المدرسين وأحوالهم ورواتبهم، لقد كان رؤساء المدارس من خيرة العلماء وأكثرهم شهرة، وإنّا لنجد في تاريخ مشاهير العلماء المدارس التي درسوا فيها، فالإمام النووي وابن الصلاح وأبو شامة وتقي الدين السبكي وعماد الدين بن كثير وغيرهم ممن كانوا يدرسون في دار الحديث بدمشق، والغزالي والشيرازي وإمام الحرمين والشاسي والخطيب والتبريزي والقزويني والفيروز أبادي وغيرهم ممن كانوا يدرسون في المدرسة النظامية ببغداد، وهكذا.. ولم يكن المدرسون في صدر الإسلام يأخذون أجرا على تعليمهم حتى إذا امتد الزمن واتسعت الحضارة وبنيت المدارس وأوقف لها الأوقاف جعل للمدرسين فيها رواتب شهرية.
ولم يكن يجلس للتدريس إلا من شهد له الشيوخ بالكفاءة. وقد كان الأمر في عصر الإسلام الأول أن يسمح الشيخ للتلميذ بالانفصال عن حلقته وإنشاء حلقة خاصة، أو أن يعهد برئاسة الحلقة إليه بعد وفاته، فإن فعل غير ذلك كان محل نقد وتعرض للأسئلة الشديدة المحرجة.. هكذا كان الأمر. فلما أنشئت المدارس جُعل للمتخرجين فيها إجازات علمية يعطيها شيخ المدرسة، وهي تشبه الإجازات العلمية في عصرنا، ولم يكن يسمح للأطباء بممارسة الطب إلا بعد نوال هذه الشهادة من كبير أطباء المدرسة.
وكان للمدرسين شعار خاص يفضلهم عن غيرهم من أرباب المهن. كان شعارهم في عهد أبي يوسف عمامة سوداء وطيلسانا، وشعارهم في عهد الفاطميين عمامة خضراء وكسوة مذهبة تتكون من ست قطع، أهمها القلنسوة والطيلسان. أما الجبة واختصاص العلماء والمدرسين بها فقد بدأ ذلك في عهد الأمويين. وكانت ملابسهم في الأندلس تختلف قليلاً عن ملابس العلماء والمدرسين في المشرق.. وقد أخذ الغربيون عن مدرسي الأندلس زيهم، فكان هو أصل الزي العلمي المعروف الآن في الجامعات الأوروبية.
وكان للمعلمين نقابة كنقابة الطالبيين، ونقابة الأشراف ونقابات بعض الحرف والمهن الصناعية في تلك العصور، وكان جماعة المدرسين هم الذين يختارون النقيب، وما كان يتدخل السلطان إلا إذا وقع خلاف بين الأعضاء فيصلح بينهم.
كانت المدارس على هذا، وخاصة المعاهد العليا، تملأ مدن العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه ويذكر التاريخ بكثير من الإكبار والإعجاب نفرا من أمراء المسلمين كانت لهم اليد الطولى في إنشاء المدارس في مختلف الأمصار، منهم صلاح الدين الأيوبي، فقد أنشأ المدارس في جميع المدن التي كانت تحت سلطانه في مصر ودمشق والموصل وبيت المقدس، ومنهم نور الدين الشهيد الذي أنشأ في سورية وحدها أربعة عشر معهداً، منها ستة في دمشق، وأربعة في حلب، واثنان في حماه، واثنان في حمص، وواحد في بعلبك، ومنهم نظام الملك الوزير السلجوقي العظيم الذي ملأ بلاد العراق وخراسان بالمدارس حتى قيل فيه، إن له في كل مدينة بالعراق وخراسان مدرسة، وكان ينشئ المدارس حتى في الأماكن النائية، فقد أنشأ في جزيرة ابن عمرو مدرسة كبيرة حسنة، وكلما وجد في بلدة عالما قد تميز وتبحر في العلم بنى له مدرسة ووقف عليها وقفا وجعل فيها دار كتب. وقد كانت نظامية بغداد أولى المدارس النظامية وأهمها، درّس فيها مشاهير علماء المسلمين فيما بين القرن الخامس والتاسع الهجري، وقد بلغ عدد طلابها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة وابن أفقر الصناع فيها، وكلهم يتعلمون بالمجان، وللطالب الفقير فوق ذلك شيء معلوم يتقاضاه من الريع المخصص لذلك.
وبجانب هؤلاء العظماء كان الأمراء والأغنياء والتجار يتسابقون في بناء المدارس والوقف عليها بما يضمن استمرارها وإقبال الطلاب عليها، وكثيرون جدا هم الذين جعلوا بيوتهم مدارس، وجعلوا ما فيها من كتب وما يتبعها من عقار وقفا على طلاب العلم الدارسين فيها.
وكانت المدارس متعددة الغايات، فمنها مدارس لتدريس القرآن الكريم وتفسيره وتحفيظه وقراءاته، ومنها مدارس للحديث خاصة، ومنها- وهي أكثرها- مدارس للفقه، لكل فقه مدارس خاصة به، ومنها مدارس للطب، ومنها مدارس للأيتام، وها هو النعيمي في كتابه (الدارس في تاريخ المدارس)- وهو من علماء القرن العاشر الهجري- يذكر لنا ثبتاً بأسماء مدارس دمشق وأوقافها، ومنه نعلم أنه كان في دمشق وحدها للقرآن الكريم سبع مدارس، وللحديث ست عشرة مدرسة، وللقرآن والحديث معا ثلاث مدارس، وللفقه الشافعي ثلاث وستون مدرسة، وللفقه الحنفي اثنتان وخمسون مدرسة، وللفقه المالكي أربع مدارس، وللفقه الحنبلي إحدى عشرة مدرسة، هذا عدا عن مدارس الطب والرباطات والفنادق والزوايا والجوامع، وكلها كانت مدارس يتعلم فيها الناس.. وإذا ذكرنا مع هذا ما كان عليه الغربيون في تلك العصور نفسها من جهالة مطبقة ومن أمية متفشية حتى لم يكن للعلم مأوى إلا أديرة الرهبان، وهي مقصورة على رجال الكهنوت فقط، أدركنا أية عظمة بلغتها أمتنا في أوج مجدها، وكم كانت حضارتنا رائعة في تاريخ المؤسسات الاجتماعية والمعاهد العلمية، وكم كان للإسلام من يد في نشر العلم، ورفع مستوى الثقافة العامة، وتيسير سبلها لسائر أبناء الشعب.
قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة إحدى وثلاثين وستمائة: (فيها كمل بناء المدرسة المستنصرية ببغداد، ولم يُبنَ مدرسة قبلها مثلها، ووقفت على المذاهب الأربعة، من كل طائفة إثنان وستون فقيها، وأربعة معيدين، ومدرس لكل مذهب، وشيخ حديث، وقارئان وعشرة مستمعين، وشيخ طب، وعشرة من المسلمين يشتغلون بعلم الطب، ومكتب للأيتام، وقدر للجميع من الخبز واللحم والحلوى والنفقة ما فيه كفاية وافرة لكل واحد..) إلى أن قال: (ووقفت خزائن كتب لم يسمع بمثلها في كثرتها وحسن نسخها، وجودة الكتب الموقوفة بها).